خيط

TT

كانت المغفور لها الملكة عالية، والدة الملك الشهيد فيصل الثاني رحمه الله، تستحق تماما اللقب الذي اطلقوه عليها ، الملكة القديسة. وكذلك كانت في صبرها وحشمتها وايمانها. شاركت في اعمال جمعية الهلال الأحمر وحماية الاطفال وغيرهما. لم تكن لتعتذر عن اية مهمة او خدمة تطلب منها في مساعدة الضعفاء والمحتاجين. كان الرائع فيها انها لم تكن مجرد اسم يلحق باسم الجمعية ليستفاد من صيتها كملكة. كانت تساهم بيديها في اعمال هذه المنظمات.

كانت تذهب بنفسها وتشترك مع الأخريات في اداء العمل المطلوب، وعلى الأخص الخياطة التي كانت تجيدها. وغالباً ما كانت تأتي بالقماش الى بيتها في قصر الزهور وتشتغل لساعات طويلة في تفصيل القماش وخياطته لليتامى وصغار المعوزين.

انصرفت بصورة خاصة الى هذه الفعاليات بعد وفاة زوجها الملك غازي رحمه الله، وكان فيصل الثاني طفلا في الرابعة من عمره. ومن شأن الاطفال انهم غالبا ما يفسرون الكلام بمعناه الحرفي. لا يختلف في ذ.لك ابن الملوك او ابن الصعاليك. الاطفال اطفال ويعيشون على براءتهم. كان جالسا بجانبها وهي تقوم بعمليات الخياطة. سألها ما تفعلين؟ قالت اخيط ملابس لليتامى. قالت ذلك لواحد منهم في الواقع. الملك اليتيم. ظل يحدق فيما تعمل ثم سمعها تنادي على ما يأتيها ببكرة خيوط. سألها شنو هذا؟ فأجابته وقالت، هذا خيط يا حبيبي.

تهللت اسارير الملك الطفل. فاقتطع قطعة من الخيط وراح يجري بها. لم تدرك الملكة عالية سر هذا الاهتمام المفاجئ لوليدها بالخيط والخيوط. حمل فيصل الثاني قطعة الخيط وخرج بها من القصر وراح يبحث عن احد الجنود من الحرس الملكي حتى عثر عليه. قال له: خذ جبت لك خيط. فاستغرق الجندي بالضحك. قبل الملك من رأسه وشكره على حسن صنيعه وراح يطوف به بين زملائه من جنود الحرس الآخرين يروي لهم هذا المقلب الظريف.

قبل عدة ايام وبينما كان ذلك الجندي البسيط موكلا بحراسة الملك، داعبه وتبسط معه بالحديث ثم قال له: سوي لي معروف. قلها لأمك تعطيني خيط. ما كان يقصده ذلك الجندي هو الترقية. الجندي العادي يكون بدون خيط. الجندي الأول يحمل خيطا واحدا، ونائب العريف يحمل خيطين وهكذا. كان ذلك الجندي الشاب جنديا عاديا بدون أي خيط. ولا شك انه كان يحلم بنيل خيط واحد على الاقل يؤهله لتلقي زيادة في راتبه، ربما مائتين او ثلاثمائة فلس في الشهر.

كان الملك الطفل قد نسي الموضوع كليا كما يحصل لسائر الاولاد. يتذكرون الآيس كريم والشكولاته والحامض حلو ولا ينسونها. ولكن ما يحملهم على تذكر قطعة خيط لجندي؟ نسي الموضوع. غير ان مشاهدته لوالدته وهي تستعمل الخيط في خياطة ثياب اليتامى ذكره بطلب الجندي. وكان طفلا بارا كوالديه، فحمل الخيط وراح يركض به فرحا مستبشرا الى ذلك الجندي ويحقق له امنيته كما تصور. ولكن الخيوط خيوط. وشتان. ما كل خيط بخيط. جاءه فيصل بن غازي بن فيصل بخيط لا يعطيه ثلاثمائة فلس في الشهر، بل ولا حتى فلساً واحداً. ودارت الحكاية في القصر وتداولها الصغير والكبير يضحكون ويستأنسون بالمقلب الذي وقع فيه ملك العراق. سمعت الملكة القديسة بالحكاية فاستغرقت هي الأخرى بالضحك. لم يذكر القوم ما اذا كان ذلك الجندي قد نال الخيط الذي حلم به. ولكن من يعرف الملكة الأم لا يملك غير ان يتصورها وقد توسطت لدى آمر الفوج بأن يحقق لذلك الجندي بغيته ويرقيه خيطا واحدا الى رتبة جندي اول.