بلا منة أو ادعاء

TT

خلال نصف القرن الماضي طرح فكرة الوحدة العربية اكثر من حزب وأكثر من رجل وأكثر من شاعر واكثر من جمهور. لكن فكرة الوحدة كانت تثير الخوف لدى الدول الصغيرة ولدى الاقليات ولدى آخرين. وكان البعض يخاف من استعلائية بعض المتحدثين عن الوحدة ويخشى منها على نفسه وعلى شعبه. وكان البعض الآخر يخاف ان يحدث لشعبه ما حصل للشعوب الصاغرة تحت شعارات الوحدة ومظاهراتها وطبولها التي تصور الوحدة على انها قهر وزمر وليست خياراً جميلاً ونهائياً

لذلك تعرضت الوحدة، فكرة وثقافة، للتهكم والهزء ومشاعر الخوف. وسقطت الوحدة السياسية قبل ان تقوم. وتساقطت الاقنعة وهي تضحك. وامضينا نصف قرن نرفع شعارات الوحدة ونحن نذهب الى الخصومة والعداء وحروب الجوار والحروب الاهلية. وتحولت كل حروبنا من اجل فلسطين الى حروب معها. ولم نعد نعرف متى نبكي ومتى نضحك ولماذا. وتحولنا في النهاية الى وحدة او اخوية متكاتفة على هدف واحد هو الموت او القتل: ليبي يدبر مؤامرة لاغتيال برويز مشرف، ومغاربة يدبرون مقتلة في مدريد التي تحتضن عشرات الآلاف من مهاجريهم، وطبيب مصري من عائلة بورجوازية يريد الانتقام للفقراء، وشيخ مجاهد من اغنى العائلات السعودية يتزعم حركة المتقشفين والعودة الى سعادة الكهوف.

تلك كانت تجربتنا مع الوحدة السياسية وابطالها. وهذا الجزء السيء، او الشديد السوء، من تسخيف فكرة الوحدة. لكن برغم كل شيء، انظروا الى الوحدة في جزئها الطوعي والعفوي. جميع العرب يقرأون الصحيفة نفسها في كل البلدان العربية. ويقرأون الكتاب نفسه. ويشاهدون المسلسل التاريخي نفسه. ويشاركون جميعاً في مهرجانات الثقافة نفسها، من اصيلة الى الشارقة. وبرغم جميع الحواجز والقيود الخبيثة او الرديئة او السخيفة، يتبادل العرب الفوائد الاقتصادية ويتجاوزون الحكومات والاتفاقات وخلافاتها، ويتبادلون العمال، وتخفف الدول الميسورة عن العائلات في الدول التي تنوء تحت فوضى التزايد السكاني او تحت التخلف الاقتصادي او تحت جرائم الفساد.

ثمة وحدة عربية تبني نفسها من دون اذن من احد. ومن دون خطابات تهديدية مملة لا تعني سوى اصحابها او المدفوعين بالسياط من اجل ان يصفقوا لها. يقرأ العرب الشاعر نفسه. وفي صحيفة «الخليج» اقرأ محمد عابد الجابري. واقرأ عادل حمودة في «البيان». واقرأ ادونيس في «الحياة». وأجد نصف كتاب العالم العربي في صحف عُمان. وفي المكتبات تعرض الكتب تحت اسم المؤلف لا تحت اسم بلده ولا اسم زعيمه. وكل كاتب يخاطب جمهوره في العالم العربي لا في بلده. والناس تسمع اخبار المساء من مذيعها العربي لا من مذيعها المحلي وما املي عليه. وهذه هي الوحدة الطوعية التلقائية الحقيقية التي ستفضي ذات يوم الى الوحدة المرتجاة. من دون قهر. ومن دون استعلاء. ومن دون البحث عن الزعامة لدى بلاد الآخرين. وحدة الشعوب والاهالي والناس والمصالح المشتركة والثقافة الواحدة. كل شيء مشترك فيما بيننا. وكل همومنا مشتركة. ومستقبلنا واحد مهما كانت ظواهر المرحلة الحالية. وفي ذلك المستقبل الموعود لن تضطر قطر لشراء البلغاريين من اجل ان يشكلوا فريقها في رفع الاثقال، بل قد تتبنى رياضيين من البحرين مثلاً. اذ لا يزال التاريخ هو الذي يكتب نفسه في نهاية المطاف. وما لم تحققه «الوحدات الفورية» التي لم تدم اكثر من فوريتها، او فورانها، حققته جامعات مصر وبيروت، وشعراء سورية، ورسامو العراق، وصحف السعودية وقنواتها، وكتَّاب فلسطين، وثقافيو المغرب. تلك هي الوحدة التي قامت من دون ادعاء ومن دون مظاهرة واحدة ومن دون توزيع كوبونات على احد. الوحدة القائمة من دون منة.