هكذا تعرفت على الشيخ ياسين

TT

رغم ان اسم الشيخ الشهيد أحمد ياسين ودوره كانا معروفين للناس في قطاع غزة قبل اقدام قوات الاحتلال الاسرائيلي على اعتقاله، فقد شاءت الأقدار ان اتعرف على الرجل في المحكمة العسكرية. فقبل تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كان للشيخ أحمد إسماعيل ياسين دور متميز في التصدي للاحتلال الإسرائيلي بالكلمة والموقف، إذ بادر مع آخرين الى تأسيس «المجمع الإسلامي» بهدف نشر الوعي والثقافة الاسلامية، ثم بادر في بداية الثمانينات إلى تأسيس حركة سمَّاها «حركة المجاهدين» التي وضعت لها ميثاقاً عنوانه «مقاومة الاحتلال حتى زواله عن كامل التراب الفلسطيني».

كيف جرى التعارف الشخصي مع الشيخ ياسين؟ كنت أحد المحامين العاملين أمام المحكمة العسكرية في قطاع غزة، ومن ضمن مهام المحامي زيارة موكليه في السجن. في إحدى الزيارات لسجن غزة المركزي، كان الشيخ ياسين ينتظر على كرسيه المتحرك في إحدى الردهات عندما طلب من احد الحراس مناداتي، فذهبت إليه وفوجئت به يقول لي: أرسلت لعدد من المحامين كي يترافعوا عني فرفضوا، فهل أنت مستعد لقبول المهمة؟ أجبته بدون تردد: هذا شرف لي. وقّع لي على توكيلي محاميا عنه، وبدأت في متابعة ملف المحكمة بعد أن حصلت على أوراق التحقيق ولائحة الاتهام التي جاء فيها أن الشيخ وسبعة آخرين كانوا يواجهون التهم التالية:

1 ـ العضوية في منظمة غير مشروعة تهدف إلى إبادة دولة إسرائيل وإقامة دولة إسلامية محلها، ذلك أنه (أي الشيخ) قام بتأسيس حركة المجاهدين بمبادرة شخصية منه وبدعم من إخوانه الذين أصبحوا أعضاء في هذا التنظيم.

2 ـ التحريض ضد قيام دولة إسرائيل، ذلك أن هذا التنظيم كان يهدف إلى إزالة دولة إسرائيل عن الوجود وإقامة دولة إسلامية محلها.

3 ـ حيازة السلاح، ذلك أنه ورفاقه حازوا عددا كبيرا من الأسلحة.

4 ـ التآمر لارتكاب جريمة، ذلك أنه ورفاقه خططوا لاستعمال هذا السلاح ضد إسرائيل.

وكانت هناك تهم أخرى لا داعي لسردها في هذه العجالة. اهتم الاعلام الاسرائيلي بهذا الملف اهتماماً غير عادي.

في جلسة الافتتاح كان رئيس المحكمة الضابط زخريا كاسبي، وبدأت النيابة في قراءة لائحة الاتهام، وقد أحضر رجال المخابرات إلى قاعة المحكمة جميع الأسلحة التي تم ضبطها للتدليل على خطورة الملف. وما أن انتهى النائب العسكري من قراءة لائحته، حتى جاء دورنا في الرد على هذه التهم فقلت باسم موكلي: إن موكلي هو ابن فلسطين هاجر منها جبراً وعمره لم يتجاوز العشر سنوات، هاجر منها بجسده ومن حقه العودة في إلى قريته (الجورة) ولا يملك لهذه العودة إن كانت عودة عزيزة مكرمة إلاّ أن تزول إسرائيل، أو أن يعيش اليهود في كنف الدولة الإسلامية، لهم مثل ما للمسلمين من حقوق، وعليهم مثل ما على المسلمين من واجبات.

قاطعني رئيس المحكمة، وطلب مني إجابة محددة على لائحة الاتهام، فطعنت بشرعية الاحتلال الذي لا يملك تشكيل مثل هذه المحكمة ومحاكمة موكلي. أيضاً قاطعني رئيس المحكمة وطلب مني الإجابة على لائحة الاتهام. حينها طلبت من المحكمة أن تستمع إلى موكلي كي يجيب على هذه اللائحة فرفض رئيس المحكمة وأصر أن يسمع الإجابة من محامي الدفاع، فقلت: إن هذه اللائحة تتسم باللامعقولية والغرابة، إذ كيف يفكر موكلي في إبادة دولة إسرائيل ومائة مليون عربي ومليار مسلم لم يستطيعوا مجرد التفكير بما فكر به موكلي. إن إبادة دولة إسرائيل لا يمكن أن تخطر على بال العرب والمسلمين فكيف خطر على بال موكلي، كيف نجح النائب العسكري في إسناد هذه التهمة لموكلي؟ إنني أطلب شطب هذه اللائحة. حينها رفع رئيس المحكمة الجلسة للرد على هذا الدفع. بعد نصف ساعة عقدت الجلسة لتتلو المحكمة قرارها وكان أهم ما جاء فيه: إن المحامي المثقف يطلب شطب لائحة الاتهام قبل سماع البينات، وأن حق الدفاع لا جدال فيه، ورداً على ما أثاره المحامي فإن المحكمة تود أن تشير إلى أنها أمام متهم لا يقل خطورة عن الخميني، فكرة الخميني في ميلادها ربما كانت غريبة وغير معقولة ولكنها في النهاية نجحت، والمحكمة ترى في المتهم أحمد ياسين انه خميني فلسطين، وقد ينجح في مأربه إن لم يتم التصدي له من خلال قوات الأمن ومن خلال قرار هذه المحكمة التي لها الشرعية وفق القوانين والأوامر العسكرية الإسرائيلية التي وضعها القائد الإسرائيلي، لذلك تقرر المحكمة رفض طلب وكيل المتهم، وتعتبر المتهم منكراً للائحة الاتهام، وتأمر النيابة العسكرية بتقديم بيناتها.

بعد انتهاء النائب العسكري من سرد بيناته، جاء دور الشيخ في الكلام فألقى محاضرة سياسية ودينية كان لها أثر عميق في نفوس الحضور من المواطنين ورجال الصحافة والإعلام، وكان من بين ما قاله: أنتم تحاكمونني وإخواني وشعبي ونحن الضحية لكم بعد أن سلبتم أرضنا وقتلتم رجالنا وأقمتم كيانكم على أرض فلسطين بالقوة ولا نملك نحن إلاّ أن نخرجكم بالقوة، ربما تستغربون وتقولون أين قوتكم وانتم الضعفاء، فأقول إن كنا ضعفاء اليوم فنحن أقوياء بإيماننا بالله عز وجل، ولأننا أصحاب حق لا يتقادم مع مرور الزمان.

وما أن بدأ الشيخ في سرد كيفية قيام إسرائيل حتى منعه رئيس المحكمة من الاسترسال ورفع الجلسة ليصدر بعد ذلك حكمه بالسجن الفعلي لمدة ثلاثة عشر عاماً. أمضى الشيخ ياسين سنتين من تلك المدة ثم أطلق سراحه خلال صفقة تبادل الأسرى سنة 1985. وبذلك تكون تلك المرحلة من مقاومة الشيخ المجاهد أحمد ياسين قد انتهت لتبدأ مرحلة أخرى هي مرحلة تأسيس حركة «حماس» التي انطلقت مع بداية الانتفاضة الأولى في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) سنة 1987، واستطاعت الحركة طوال السنين اللاحقة إثبات وجودها ليس فقط من خلال المقاومة المسلحة، وإنما ايضا من خلال مؤسساتها المختلفة التي تشارك في خدمة المواطنين.

* محام من غزة