معركة كسب الوعي مع إسرائيل

TT

كتب المفكر اليهودي الفرنسي ألكسندر آدلر المعروف بقربه من الأوساط الصهيونية في صحيفة لفيغارو (25 مارس)، عن ما دعاه بمفارقات إسرائيل الثلاث التي تشكل رهانا أساسيا من رهانات الوضع الإقليمي الشرق أوسطي الجديد.

أولى المفارقات تتمثل في إجماع القوى السياسية الإسرائيلية على مبدأ الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، في حين لا أحد يعرف بالضبط كيف يبدأ المسار الذي سيؤدي إلى الدولة الفلسطينية المستقلة.

أما المفارقة الثانية، فهي ان إسرائيل غدت أكثر أمنا من أي وقت مضى، ولم تعد تستشعر أي خطر إقليمي مباشر، بعد انهيار نظام صدام حسين في العراق وقبول إيران المصالحة مع الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن الرأي العام الإسرائيلي يعيش حالة إحباط ويأس لم يعرفها من قبل.

والمفارقة الثالثة، هي إنه لم يعد الاعتراف بإسرائيل مدار اعتراض منذ أن قبل العالم العربي السلم معها خيارا استراتيجيا، وحتى إيران «المتشددة» لم تعد ترفض الاعتراف بها، ومع ذلك فإن عزل إسرائيل ورفض المشروع الصهيوني وصلا لحد غير مسبوق منذ قيام المشروع القومي اليهودي وتأسيس الدولة العبرية.

ويرى آدلر أن وضع شارون السياسي والشخصي يرمز لهذه المفارقات: ففي الوقت الذي قاد حربا دامية ضد السلطة الفلسطينية والتنظيمات الإسلامية، حقق فيها أهدافه من تدمير للبنية التحتية للمقاومة، وتفكيك لما يعتبره بنية الإرهاب المرتبطة بالسلطة الفلسطينية، إلا إن ثمن الحرب كان باهظا بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي الذي يعيش حالة انقسام وتصدع لم يعرفها من قبل.

وفضلا عن الفضائح الحالية التي تلاحق شارون، غدا من الواضح انه فاقد لأي أفق سياسي، في الوقت الذي يعاني الشارع الإسرائيلي من الضياع ذاته ويفتقد لديغول يهودي يحقق له مطلب الانفصال عن المناطق الفلسطينية المحتلة.

والواقع أن آدلر يعبر في مقاله المذكور عن مظهر من مظاهر الأزمة السياسية الأخلاقية التي يعاني منها خطاب النخبة اليهودية الأوروبية الميالة للأطروحة الصهيونية والمؤيدة لإسرائيل، التي أصبحت عاجزة عن تسويق السياسات الإسرائيلية في الساحة الأوروبية.

ولعل المفارقة الرابعة، التي لم يذكرها آدلر، هي كون تنامي نزعة العداء لإسرائيل في أوروبا التي بينتها استطلاعات الرأي الأخيرة، تزامنت وانبثاق تيار عدائي جارف ضد العرب والمسلمين ناتج، بطبيعة الحال، عن الأحداث الإرهابية التي تتالت منذ أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأوروبية واعتبرت من تدبير تنظيمات أصولية إسلامية متطرفة.

فحالة رفض إسرائيل والنفور منها إذن، ليست من كسب العرب والمسلمين أو من تدبيرهم ونفوذهم، بقدر ما إنها لا تفسر بالتأويلات الساذجة التي تنشرها الدعاية الصهيونية، من قبيل الخلفية الدينية القديمة أو بقايا النازية والفاشية، بل يتعين على العكس، البحث عنها في حقيقة جوهرية هي كون الصهيونية تحمل بصمات الإيديولوجيات القومية المغلقة والمتشددة التي تجاوزها الفكر الأوروبي، وكون إسرائيل هي القوة الاستعمارية الأخيرة في العالم.

ومع ان هذه الحقيقة ساطعة وبديهية، إلا اننا عجزنا عن إبلاغها للرأي العام الأوروبي، وفشلنا في ترجمتها بمفردات وصيغ المرجعية النظرية والقيمية للوعي الغربي المعاصر.

صحيح ان المشروع الصهيوني هو في جانب من جوانبه المحورية جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الاستعمارية في المنطقة، ولا يمكن فصله عن اللعبة الدولية خصوصا ما يتصل منها بالمصالح والأهداف الأميركية، بيد ان هذا الواقع الموضوعي لا يلغي حقيقة كون الإيديولوجيا الصهيونية نجحت في استمالة أغلب مكونات الشعوب اليهودية لمشروع طرحته خيارا قوميا يجسد «الهوية اليهودية» في زخمها التاريخي والرمزي، كما نجحت في تأمين الدعم والتعاطف الدوليين للدولة الاستيطانية التي أنشأتها على أرض فلسطين.

ومن هنا الثغرة الأساسية في استراتيجية المواجهة العربية للخطاب الصهيوني التي لم تنقل ساحة المواجهة إلى حقل انطباقه (أي الشعوب اليهودية) ودائرة دعمه وتأييده (أي الرأي العام الغربي).

ففضلا عن إضاعة اليهود العرب الذين كانوا يشكلون مكونا من نسيجنا البشري والثقافي لا شيء يربطه باليهود الأوروبيين، أخفقنا في استثمار هامش الرفض للأطروحة الصهيونية داخل الصف اليهودي الأوروبي نفسه. ويتعلق الأمر بهامش يتغذى من روافد عديدة من بينها الديني (التيارات الارثوذكسية التقليدية المتمسكة بالشتات حتى ظهور المسيح المخلص) والسياسي (التيارات المدافعة عن اندماج الجاليات اليهودية في مجتمعاتها القومية والرافضة لنمط المشروعية الدينية للدولة).

فلا يخفى على أحد، أن التيار المعادي للصهيونية موجود ومتنام داخل النخب اليهودية حتى داخل إسرائيل، ومن رموزه مفكرون كبار من نوع عالم اللسانيات الأميركي الأشهر نعوم تشومسكي.

ومع ذلك، فإن الخطاب السياسي والإعلامي العربي عجز عن توظيف هذا التيار والتواصل معه. ولقد كان من المفارقات المثيرة ان اثنين من يهود المغرب القريبين من التنظيمات اليسارية الفلسطينية منعا قبل أربع سنوات من دخول لبنان لاعتبار أصولهما اليهودية.

ولا يتعلق الأمر هنا بالأطراف المدعوة بقوى السلام في إسرائيل (مثل حزب ميرتس وبعض الناشطين في حزب العمل…) التي تنتمي في نهاية المطاف للمشروع الصهيوني نفسه، حتى لو كانت تتبنى حل الدولتين على أرض فلسطين لأسباب برغماتية واقعية.

إن ما نريد أن نخلص إليه هو إنه إذا كانت جرائم شارون ورعونته قد أدت إلى زعزعة مكانة إسرائيل «الرمزية والخلقية» في الوعي الأوروبي، فإن استراتيجية المقاومة الثقافية العربية لم تنجح في تأدية الدور المنوط بها من تفكيك نقدي للمشروع الصهيوني، وتزيين للنضال الفلسطيني في أبعاده الإنسانية والقيمية، وهما الشرطان اللازمان للوصول إلى الرأي العام الأوروبي وتحريره من أسر الدعاية الصهيونية.