إسرائيل ترسم شكل العنف القادم

TT

يعتبر اغتيال الشيخ احمد ياسين محاولة من آرييل شارون للقضاء على اي تحرك باتجاه السلام في الشرق الاوسط. فقد تقدم الشيخ احمد ياسين خلال العقد الماضي، بعدة مقترحات تعتبر في حد ذاتها تحولات كبيرة باتجاه التوصل الى حل واقعي للنزاع العربي ـ الاسرائيلي.

فمنذ اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر (ايلول) 2001، تقدم ياسين بعدة مقترحات لوقف إطلاق النار، لقاء انسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلتها عام 1967، وإنهاء العمل العسكري الاسرائيلي ضد الفلسطينيين، اذ اعلن الشيخ قبول الحل المتمثل في إنشاء دولتين اسرائيلية وفلسطينية تعيشان جنبا الى جنب.

قبل ثلاثة اسابيع من مقتله في 22 مارس (اذار) الماضي، اعلن الشيخ ياسين عن خطة لحركة «حماس» و«فتح» وتنظيمات فلسطينية اخرى، لاتخاذ موقف موحد ازاء ادارة قطاع غزة في حال انسحاب اسرائيل منه، حسبما اعلن شارون في وقت سابق، إلا ان هذه المقترحات لم تكن في مصلحة شارون مطلقا كما هو واضح. وقال رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحق رابين، انه يتمنى ان يرى غزة وهي تغرق في البحر، اما شارون الآن، فيتمنى ان تغرق غزة في دماء حرب اهلية بين «حماس» و«فتح».

قدم الشيخ احمد ياسين قاعدة صلبة لصنع السلام، لذا فإن قرار الحكومة الاسرائيلية باغتياله عزز الاعتقاد لدى الكثير من الفلسطينيين، بمن في ذلك كاتبة هذه السطور، بان اسرائيل لا تريد السلام وليست جادة في التوصل اليه، اذ ان كل خطوة الى الأمام من جانب السلطة الفلسطينية، او اي فصيل سياسي مثل «حماس»، تقابل بخطوة الى الوراء من جانب شارون. فاغتيال الشيخ احمد ياسين اثبت ان اسرائيل ليست على استعداد لأن تتحدث لغة السلام، ففي ظل حكومة شارون لا تتحدث اسرائيل سوى بلغة القوة والدم.

بات الكثير من الفلسطينيين على قناعة بهذه الحقيقة، اثر اغتيال اسماعيل ابو شنب في اغسطس (آب) الماضي، علما بأن ابو شنب معروف بمواقفه المعتدلة، وقبوله للحل القائم على اساس اقامة دولتين فلسطينية واخرى اسرائيلية. ولو كانت اسرائيل ترد الاستماع للغة السلام، وتعزز موقف المعسكر المعتدل داخل حماس، وتتجنب سفك دماء الشعبين، لما أقدمت على اغتيال اسماعيل ابو شنب.

حكومة شارون تعتقد ان بوسعها توفير الأمن والسلام للاسرائيليين من خلال الاغتيالات والاحتلال، لكنها لن تستطيع ذلك. اذ على العكس، يدرك شارون ان اراقة الدماء تؤدي الى إراقة دماء اخرى، وان الافعال تعقبها ردود افعال. يدرك شارون ايضا ان النتيجة الوحيدة المحتملة لاغتيال الشيخ ياسين لن تكون سوى صب المزيد من الزيت على النار، وتحفيز الفلسطينيين على مواجهة الاحتلال الاسرائيلي غير المشروع لأراضيهم، هذه المقاومة ستسفر في نهاية الامر عن رد فعل عسكري اسرائيلي، وبالتالي استمرار دائرة العنف، بما في ذلك الهجمات الانتحارية، من دون نهاية. ولكن من المهم ان نتذكر ان الاحتلال هو الذي يتسبب في الهجمات الانتحارية وليس العكس.

شارون يريد ان ينأى بنفسه عن أي حل سلمي ربما يؤدي الى الضغط عليه ويحمله على تقديم تنازلات، فاذا كانت لدى شارون رغبة حقيقية في السلام، لوافق على مبادرة «خريطة الطريق» القائمة على اساس حل النزاع بإنشاء دولتين فلسطينية واسرائيلية، وهو الحل الذي قبله الفلسطينيون واللجنة الرباعية (الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة وروسيا) لكنه لم يطبق.

اطلقت اسرائيل ثلاثة صواريخ مزقت جسد الشيخ احمد ياسين المشلول وكرسيه المتحرك، لتمتلئ الشوارع بعشرات الآلاف من الفلسطينيين للتعبير عن الغضب والصدمة، ورغم ان اسرائيل استهدفت الشيخ ياسين في وقت سابق، إلا ان احدا لم يصدق ما حدث اخيرا وبالطريقة التي حدث بها.

الشيخ احمد يسين، 67 سنة، زعيم روحي وليس هدفا عسكريا، فهو يعاني من مشاكل في السمع والبصر، ومشلول، وعندما استهدفته الصواريخ الاسرائيلية كان على كرسيه المتحرك في الطريق من المسجد الى منزله بعد أدائه صلاة الصبح. فالشيخ ياسين هدف سهل لا يستطيع الركض والهرب من الموت. ترى، كيف يعتبر شارون هذه الجريمة انتصارا له؟ منزل الشيخ احمد ياسين معروف لدى القوات الاسرائيلية، كما انه بات معروفا للجميع ان الشيخ يؤدي الصلاة يوميا في المسجد. ليست هناك، اذاً، براعة او تفوق في هذه العملية، سوى انها تجاوزت كل حدود الانسانية وجعلت من نفق السلام اكثر ظلاما مما كان عليه في السابق.

اسرائيل هي صاحبة الدور الأكثر تأثيرا في تواصل الجمود الحالي، فاذا كانت راغبة في السلام حقا لما ترددت في تطبيقه، فهي في موقف يسمح لها بتقديم حل. فيما ليس في وسع الفلسطينيين سوى التفاوض بهدف التوصل الى حل. خطوات الجانب الاسرائيلي غالبا ما يتبعها رد فعل فلسطيني بسبب القوة غير المتوازنة. فلأول مرة يتفق المجتمع الفلسطيني بمعسكريه الاسلامي والقومي (فصائل منظمة التحرير الفلسطينية)، على الحل القائم على إنشاء دولتين فلسطينية واسرائيلية. بعد ذلك جاءت خطوة شارون بقتله الشيخ احمد ياسين، حيث اراد ان يبعث برسالة يستعرض من خلالها اقصى قوته قبل انسحاب قواته من غزة. وتتلخص رسالة شارون في ان اسرائيل اذا انسحبت من غزة، فإنها ستغادر منتصرة لا هاربة، ذلك ان اسرائيل فقدت الكثير من سمعتها العسكرية عندما انسحبت من جنوب لبنان. وبما انه ليست لديه استراتيجية للسلام، فإنه لا يستطيع ان يقدم سوى سياسة الدم هذه.

شأني شأن الكثير من الفلسطينيين، استغرب تقبل اغتيال الشيخ احمد ياسين من جانب المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص إدارة الرئيس بوش، التي رفضت انتقاد عملية الاغتيال. تعتبر عملية اغتيال الشيخ ياسين في نظر الفلسطينيين والعرب وكثير غيرهم في العالم، تجاوزا لكل الأعراف والقوانين وانتهاكا لكل الحقوق.

كان بوسع اسرائيل اعتقال الشيخ ياسين وتقديمه الى محاكمة، فهي تجتاح قطاع غزة كل يوم تقريبا، وتقتل وتعتقل من تريد، لكنها ارادت ان تبعث برسالة مفادها انه ليس هناك من يمكن ان يوقفها عن فعل أي شيء وفي أي وقت، وبالتالي ليس هناك من هو آمن.

عندما رأيت الناس من مختلف الاجيال في المظاهرة التي انطلقت الاسبوع الماضي، ادركت تماما إنهم مثلي يبكون على شيء اكثر من مجرد الموت الجسدي، إنهم كانوا يبكون ضحاياهم وأصدقاءهم وجيرانهم، ويبكون على وحشية الاحتلال الذي ظل يدمر مختلف جوانب حياتهم، كما كانوا يبكون على صمت المجتمع الدولي. انا كنت ابكي ابن عمي، الذي اصيب بالشلل في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي اثر هجوم للقوات الاسرائيلية، ومئات غيره.

اغتيال الشيخ ياسين كان بمثابة وسيلة للتأكيد على ان العنف لا يزال مستمرا بهدف تمكين حكومة شارون المتطرفة من الاستمرار في السلطة وتجنب تقديم أية تنازلات من اجل السلام.

شارون هو الذي تسبب في اندلاع الانتفاضة الاخيرة اثر زيارته الى المسجد الاقصى عام 2000. ويخشى الكثير من الفلسطينيين ان يتسبب اغتيال الشيخ احمد ياسين في بدء مرحلة اكثر عنفا من الانتفاضة، مرحلة لا تسود فيها سوى قواعد الانتقام. عادة ما يكون الفلسطينيون محل اتهام بإضاعة فرص السلام، إلا ان من ضيع الفرصة هذه المرة هو شارون، وسندفع كلنا الثمن.

* باحثة من غزة وتحضر لنيل درجة الدكتوراه في جامعة اكستر البريطانية.

خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»