هناك ما هو أجمل في العراق...

TT

بعد ثلاثة أيام من نشر هذا المقال يكون قد مضى عام على دخول القوات الأمريكية بغداد، وعام على المشهد الكبير، مشهد سقوط تماثيل صدام حسين في ساحة الفردوس وساحات العراق الأخرى. لم يكن احد يدري شيئا مفصلا عن (اليوم التالي) في العراق. هناك من ذرف دموعا سخية على صدام حسين، وهناك من توقع أنها جولة في المعركة وان صدام يعيد تجميع قواته في أماكن أخرى من العراق، تذكروا (كميات) الكلام التحليلي لأمراء الفضائيات العربية، وبقية الصخّابين الفضائيين، وتذكروا توقعاتهم وتبشيراتهم الواثقة بقرب المقبرة العراقية للغزاة.

ماذا حصل بعد مرور عام؟

إذا أردتم أن تعرفوا الإجابة فلا ترابطوا أمام شاشة الجزيرة، وشبيهاتها، بل حاولوا أن تستقوا أخباركم وتكونوا صورتكم من العراقيين في الداخل أو من يذهبون إلى الداخل، ونوعوا في هذه المصادر. ولكن قبل هذا وذاك دعونا نستعرض جردة سريعة لما تم في العراق من 9 ابريل، تاريخ سقوط صنم صدام في ساحة الفردوس إلى هذا اليوم 6 ابريل، وربما استفزت هذه النتائج بعض مدمني العداوة للغرب أو أمريكا:

* إسقاط نظام صدام حسين البعثي.

* مطاردة الطبقة البعثية الحاكمة.

* القبض على جل قادة البعث.

* قتل الدكتاتور الصغير عدي والأصغر قصي.

* الهدية الكبرى; اعتقال صدام حسين بطريقة كسرت صورته الرمزية.

* تنظيف السجل الأسود لحقوق الانسان.

هذا على صعيد الهدم (الايجابي) اما على صعيد البناء، فقد تم حكم العراق بطريقة أكثر انفتاحا وديموقراطية بكثير، للدرجة التي حدثني فيها الزميل معد فياض مراسل «الشرق الأوسط» من العراق، نقلا عن وكيل وزارة الداخلية العراقي، أنهم يتذمرون من التزام سلطة التحالف بمعايير معينة في القبض على المشبوهين والتحقيق معهم، يقول المسؤول الأمني العراقي «نقبض على شخص يقوم بالتفجير والأعمال العسكرية، ويعترف لدينا بذلك ويسمي من معه من البقية، ثم نحيله لسلطة التحالف فيطلقونه بعد ثلاثة أيام! وحينما نسألهم: لمَ أطلقتموه وهو خطر كما اوضحنا لكم؟ يجيبون بأنه لا توجد أدلة قانونية كافية ضده؟!».

لقد نشأ مجلس الحكم المحلي وُكتب الدستور العراقي المؤقت وتمت الموافقة عليه، وانفتحت الحريات الإعلامية وغيرها، حرية منحت المناخ الملائم الذي خرج فيه أنصار (الشاب) مقتدى الصدر إلى الشوارع محتجين على إغلاق صحيفتهم (الحوزة الناطقة) التي كانت تعلن الحرب على سلطة التحالف، دونما خوف أو وجل من أن يلقوا في سجن (أبو غريب) أو معتقلات الرضوانية، لم تقف الأمور عند حد التظاهر فكانت المواجهات المسلحة.

الآن في العراق هناك أكثر من 260 جريدة ومجلة، وعشرات المحطات الإذاعية وبعض القنوات التلفزيونية الخاصة، مثل قناة (الشرقية) وهناك ازدهار في مهنة الصحافة وطلب متزايد على الصحافيين، والمترجمين، للمستوى الذي جعل المترجم، مثلا، يفرض شروطه وطلباته على ساعة الترجمة، بسعر يتراوح من ألف إلى ألف وخمسمائة دولار شهريا! وهو رقم ضخم وهائل قياسا بالعودة إلى سلم الأجور قبل 9 ابريل العام المنصرم.

هذا من ناحية الحرية الإعلامية، أما من ناحية الواضع المعيشي فقد تحسن كثيرا قياسا بما كان عليه الوضع. فمثلا هناك معلمة عراقية كانت تتقاضى 3 دولارات في الشهر، أصبحت الآن تتقاضى 200 دولار شهريا، مع بقاء أسعار السلع التموينية والاستهلاكية كما هي منخفضة ومدعومة، مما يعني ارتفاع الأجور وانخفاض الأسعار، وهو مؤشر نادر الحدوث. الشيء الوحيد الذي ارتفع هو أسعار العقارات والتأجير، كما يؤكد معد فياض.

طبعا هناك الكثير من العاطلين عن العمل والساخطين، وهناك غباء وبرودة أمريكية ودولية في وجوب الإسراع بمنح المساعدات، وربط المانحين منحهم بتحسن الوضع الأمني، مع أن سوء الوضع المعيشي من أهم أسباب تأزيم الوضع الأمني.

وبالحديث عن الواقع الأمني يجب أن نتنبه لأمر شديد الأهمية، نضعه على شكل تساؤل، هل العراق هو ما تعرضه الفضائيات العربية، تفجير، اغتيال، قتل، كمين، اعتقال...الخ

هل هذه الصورة هي سيدة المشهد في العراق الداخلي الان؟!

يقول من عاد من العراق قبل أيام، بأنه حينما يشاهد أخبار العراق في الجزيرة أو غيرها يصاب بالدهشة: هل يتحدثون عن العراق الذي عدتُ منه، أم عن كوكب آخر اسمه العراق؟!

ويضيف «يا سيدي ليس الأمر كما يصورون، الناس تمارس حياتها، المطاعم في شارع المنصور في بغداد مليئة بالحضور، الحفلات عامرة، الشوارع مزدحمة بالمارّة هناك مبالغة واستعداد مسبق لـ(تظهير) الصورة القادمة من العراق بشكل آخر في معامل الفضائيات العربية، ثم إعادة إنتاج الصورة الجديدة للمستهلك العربي.

فمثلا، الانفجار الذي حدث في شارع الرشيد في بغداد قبل فترة قريبة، نشرته الفضائيات العربية باعتباره انفجارا مدبرا هزّ أركان بغداد واستهدف بث الرعب، والأمر، كما استطلعه الزميل معد، لم يكن أكثر من انفجار (قنينة) غاز في منزل قديم، كان شديد الدوي، لم يكن صاروخا ولا قنبلة، وان كان له صوتهما وشيء من أثرهما. ولكن مراسلة احدى الفضائيات (العربية!) أصرت على انه انفجار مدبر، رغم اعترافها بجهل مصدر الانفجار.

ماذا نريد القول؟ هل الصورة وردية، و(الاحتلال) شيء جميل في العراق رغم كل هذه الأخبار؟! بالطبع لا. هناك ملاحظات عميقة وجدّية على الوضع الأمني، فالوضع الأمني في العراق ليس مثاليا ابدا، هناك اخطاء ترتكبها القوات الأمريكية في إدارة الشأن العراقي، وهناك حالة من (التشنج) في صفوف الجيش الأمريكي، وقلة وعي في التعاطي مع ثقافة الشعب العراقي، ولكن الصورة ليست سوداء قاتمة كما يرغب البعض في إظهارها.

أما مقتدى الصدر وحركته، فهي ليست أكثر من استعراض للقوة أمام خصومه من داخل الصف العراقي، وليس الأمريكان، على طريقة إياك اعني واسمعي يا جارة !، فالرجل ليس محل إجماع ولا أغلبية حتى في صفوف الشيعة العراقيين، أولاً لأن معظم الشارع الشيعي العراقي غير متزمت ولا شديد التدين، بل هو في طبيعته مرتاح ومتصالح مع الحياة، وثانيا لان هناك أسماء أثقل وأهم وأكبر أثرا من مقتدى الصدر داخل التركيبة الدينية الشيعية، ميزة الصدر انه أكثر ضجيجا واستعراضا، خصوصا بعد عرض مليشيات جيش المهدي، راكبا على موجة القضية الفلسطينية (كالعادة) وجاعلا منها (يدا ضاربة) لحماس وحزب الله، مما يذكرنا بجيش القدس المأسوف عليه أيام صدام حسين.

مقتدى الصدر يريد حصة من السوق السياسي، هذا كل ما في الأمر، وهو يستند في ذلك على تراث أبيه صادق الصدر ومحمد باقر وغيره ممن قضوا على يد البعث، علاوة على ما يحصل عليه من دعم خارجي معروف ومحدد، يهمه إدارة المسألة الشيعية في العراق لصالحه.

ولكن مقتدى الصدر يعرف حدوده تماما ولذلك طالب أنصاره بعد أحداث النجف وبغداد الأخيرة، وبعدما وقع له قتلى وجرحى في المواجهات مع القوات الامريكية، بـ( الكف عن المظاهرات السلمية «واللجوء إلى وسائل أنجع») مع أنه لا نجاعة بعد ذلك الا في المواجهة المسلحة التي كرر مقتدى مرارا رفضه لها.

إن ما يجري في العراق أكثر تعقيدا مما تقدمه القنوات الفضائية العربية ذات الأجندة السابقة، أو ذات الرؤية الغائبة.

هناك تفجيرات، وعمليات متفرقة، وجنود امريكان يقتلون، كل هذا صحيح ولكنه جزء من الصورة، فهناك أيضا حفلات تسليم الوزارات العراقية للعراقيين وأناس يتنفسون هواء الحرية لأول مرة.

صحيح ان الصورة ليست كما ترسمها قناة فوكس نيوز الأمريكية، ولكنها حتما ليست كما تنحتها قناة الجزيرة، فرفقا بالعراقيين الذين يسعون الآن لبناء حياة جديدة، ورحيل القوات الأجنبية المحتلة عن بلادهم، والتي لولاها، رغم كل ما قيل ويقال، لظل صدام حسين إلى هذه اللحظة في الحكم ولما سمعنا باسم مقتدى الصدر أو رأينا مشاهد المظاهرات وحرق اعلام السلطة الحاكمة في شوارع العراق. كان صدام يتصرف مع مثل هذه الحالات بطريقة أخرى.

دعوا العراقيين لحاضرهم، يطببون جراحهم، ويبنون مستقبلهم، وأعتقوهم من الأوهام والمزايدات.

(كلمة عابرة):

توفي الدكتور عبد القادر طاش، أجمل وأطيب إعلامي إسلامي عرفته، وداعاً طيباً وحزيناً أيها الأبيض.

[email protected]