التاريخ لا ينتهي عند أبواب البيت الأبيض

TT

يفرح المسلمون بالقنبلة النووية الباكستانية بأنها «القنبلة الإسلامية»، ولكن القنابل لا دين لها. وترزح باكستان في سلاسل الديكتاتورية، ولم تنتفع من روح غاندي بشيء، وتكرهه باعتباره هندوسيا. ويضحك الإنسان وهو يرى باكستان في أزمة أفغانستان تقول إنها تخاف على منشآتها النووية. فالشيء الذي وجد ليحمي توضّح أنه يحتاج للحماية. إنها نكتة كبيرة لا تدعو للضحك. والقرآن يقول أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون.

وعبدة الأصنام من المشركين كانوا يصنعون آلهة من تمر فإذا جاعوا أكلوها، وباكستان صنعت السلاح النووي ولم تستفد منه، وستفككه كما فعل الاتحاد السوفياتي. وكما سيفعل الجميع في النهاية، بمن فيهم أميركا وإسرائيل. والسلاح النووي عتاد ميت ليس للاستخدام، وإنْ نفع في شيء ففي عدم استخدامه؟ فجاء السلام من أتون جهنم النووية.

وهناك شيء غامض في الإنسان، عصي على الفهم. فكما يولد يموت. وفيه يتناقض الليبيدو مع التانتوس، أي غريزة الجنس والحياة مع غريزة التدمير والموت. وتبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. ودعوة الأنبياء تحققت في النهاية أن السلام سيعم العالم. ولولا استخدام السلاح النووي ما خاف البشر من جهنم النووية. ولأول مرة في تاريخ الإنسان تصبح الحرب انتحارا للطرفين. ولم يخض أحد الحرب وهو يعلم أنه ينتحر؟

وقصة تطور السلاح عبر التاريخ تقول إن دورات الحرب وتطوير السلاح كانت دوما أشد هولا حتى ألغت القوة (القوة) وأعلنت الحرب (نهاية) الحرب ووضعت أوزارها، وهو تناقض عجيب ولكنه بهيج أن يحل السلام على الأرض وفي القلوب المسرة، كما يقول الإنجيل.

وفي فبراير 2004، اعترف العالم النووي الباكستاني (عبد القادر خان) بأنه قام بتهريب بعض من أسرار التقنية النووية إلى بلاد أخرى، وحوكم لذلك، وهو أمر متوقع ويجب حصوله. ولا يمكن فهم الأشياء لولا المعرفة التاريخية. ومن لم يكن متشبعا بروح التاريخ لا يوثق بمعلوماته. وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

وفي صباح 16 يوليو 1945 قامت أميركا بأول تجربة نووية في تاريخ الإنسان. وعندما نجحت التجربة ظنت أميركا أن أمام الاتحاد السوفياتي أكثر من عشرين سنة للحاق بها، ولكن كذب السياسيون ولو صدقوا، فبعد أربع سنوات ارتفع الفطر النووي من صحراء سيميبالاتنسك في كازاخستان. والسياسيون في العادة لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم. ومن أبصر أرنبة أنفه فقط كان أحولَ لا يُبصر. ومن يبصر هم العلماء الذين وصلوا إلى أسرار الذرة.

وفي يوم جلس العالم الفيزيائي الدانماركي (نيلز بور) مع تشرشل، ونصحه بتعميم تقنية السلاح النووي على العالم، وإنهاء الاحتكار النووي، وأن يكون تحت إشراف دولي، ولم يكن في الميدان إلا أميركا، جنّ جنونه، واعتبر الأمر خيانة عظمى، وكاد أن يلقي القبض عليه.

وفي يوم قام الفيلسوف (برتراند راسل) بمظاهرة في شوارع لندن، وعمره ثمانون سنة، ضد التسلح النووي، ألقي القبض عليه وحكم ستة أشهر بالحبس لإعاقة السير في شوارع لندن؟ والعلماء يفهمون والسياسيون لا يفقهون. وقصة السلاح النووي الإسرائيلي والباكستاني متشابهة وخرافة واحدة.

وهناك من يظن أن حرب العراق لم تكن حربا بل كانت لعبة أتاري، والجيوش تقهر والشعوب لا تهزم. والتحدي في وجه أميركا هو بعد احتلال العراق وليس قبله.

ويقول (فيكتور فيرنر) في كتابه (الخوف الكبير أو الحرب العالمية الثالثة) عن تطور القوة،إنها وصلت إلى تغيير نوعي فلم تعد الحرب (حرباً)، ويشبه هذا كما لو تجول رجل في مدينة وارتفاعه 200 متر ووزنه 200 طن، فهو على صورة بشرية مثل جوليفر مع الأقزام ولكنه في حقيقته لم يعد بشرا، وكذلك الحرب.

وعندي طبيب كشميري مستعد لأن يقاتل حتى آخر كشميري، ويتمنى أن تكون بيده قنبلة نووية ليضرب بها الهند. والأطباء مهنيون، فإذا دخلوا في السياسة كانوا مثل الأمي الذي يريد حل مسألة في رياضيات التفاضل والتكامل؟

وسلاح (شمشون) النووي الذي تحدث عنه (سيمور هيرش) في كتابه عن خرافة السلاح النووي الإسرائيلي، لن يزيد عن قصة كوبا وكوريا، فلم يستخدم السلاح النووي في أشد الظروف مرارة ويأسا. وعندما طلب (ماك آرثر) 26 رأسا نوويا، لإنهاء الحرب الكورية، كلفه هذا أن يستقيل، وهو الجنرال الذي لم يهزم قط. وكانت مسألة السلام عند (ترومان) أهم من حماقة جنرال.

ولكن مع هذا، فقد خدم السلاح النووي السلام وختم الحرب إلى الأبد في تاريخ الإنسان. ولولا الردع النووي لبقي البشر يتقاتلون. ومن استعرض تاريخ الإنسان والإنفاق العسكري ذهل، ولكن كل المشاريع العسكرية نفعت في النهاية، فخدمت السلم مثل الإنترنت وغزو الفضاء فأصبحنا بنعمة الإنترنت إخوانا.

الحرب انتهت، وعالم الكبار يعلم ذلك علم اليقين، ولكنه يراهن لآخر لحظة على مسرحية الحرب حفاظاً على امتيازاته، وهو مؤشر لانهيار في عالم القيم. وقد يصب في صالح التحليل الذي تقدم به (أوسفالد شبنجلر) عن موت الحضارة الغربية. وكما انهار الاتحاد السوفياتي وكان يمتلك أسلحة تدمير الكون مرات، بانهيار القيم الداخلية من تطبيق مبدأ الإكراه في إجبار الناس على اعتناق الشيوعية. وانهيار أميركا سيأتي من باب مختلف. فيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. وهو داء دوي شديد الخفاء، قضى على كثير من الحضارات. والحضارة الفرعونية، عمرت ثلاثة آلاف من السنين، ولكن لا يوجد اليوم مصري واحد ينطق الهيروغليفية. ويلعن الفلاح المصري كل يوم في صلاته فرعون، ويوم القيامة هو من المقبوحين.

ويقول توينبي، عن سر انهيار الحضارة الفرعونية، إن (التحدي) انتقل من (الطبيعة) إلى (النفس)، وعندما قصرت الطاقة الإبداعية تحولت الأهرامات إلى مدافن لعبادة الأشخاص الفانين. فمزقوا شر ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون.

وانهيار أميركا أمر يتوقعه حتى العقلاء من الأميركيين، مثل المؤرخ الأميركي (باول كيندي)، وانهيار أميركا لا يعني أنها ستصبح مثل لبنان أو راوندا، ولكنها ستفقد دور الريادة العالمية وسببه (إفلاس أخلاقي) قبل أن يكون ضعفا في الآلة العسكرية. وهذا سيتبع ذاك.

ومقتل الحضارات، حسب تحليل المؤرخ توينبي، داخلي بالانتحار الأخلاقي قبل أن يكون نقصا في العتاد والذخيرة والتقنية، أو الهجوم الخارجي من إرهابيين وسواهم. ولولا (العدل) ما ولد (الأمن)، ولولا الأمن ما ولدت (الحريات) وأميركا تريد حرب الإرهاب بالإرهاب وتريد أمناً بدون عدل، فهذا نقص خطير في المعادلة.

وحسب (توينبي) فإن انهيار دولة آشور في التاريخ كان من الكوارث العارمة، ولم يكن سببه نقصا في الآلة الحربية; بل كانت آشور تتفقد آلتها الحربية دوما وتطورها باستمرار وفي النهاية ماتت مختنقة بالدرع.

ونهاية الحرب يعرفها العلماء ويخفيها السياسيون وهم يتلون الكتاب. وهو يروي قصة (الفراق) العلمي الأخلاقي. فبقدر انفتاح العالم على بعضه علميا بواسطة التقنية، بقدر وجود أمراض فكرية مثل (صراع الحضارات)، يعلنها رجال لا يفقهون تطور الجنس البشري، أو يزعمون أن التاريخ ينتهي عند البيت الأبيض. وهؤلاء لا يصلحون أن يكونوا تلاميذ في علم التاريخ والحضارة.