الراحتان

TT

التقيت محمود درويش في باريس التي جاءها من رام الله حيث يقيم الآن، وسألته عن رأيه في دنيانا، فقال انه استسلم لثاني الراحتين، وانتهى الامر. وقلت له هل هناك شيء يبرر اليأس المطلق، فقال ليس هناك اي شيء يبرر اي تفاؤل. وسألته متى تعارفنا في المرة الاولى، فقال العام 1972. وقلت له كم كان يبدو العالم جميلاً وحالماً انذاك.

تعودت منذ ذلك الوقت على شخصية واحدة في محمود. رجل طافح بالطيبة ولا يقوى على احتمال الملتويات الاجتماعية والسياسية. واصبح ذات مرحلة عضوا رفيعاً في منظمة التحرير، لكنه ظل قاطناً في الشعر، لا ينزل الى اليوميات ولا يقبل منصباً ولا يرتضي تصنيفاً سوى ذاته. وكان ولا يزال قريباً من جميع الطبقات القيادية، لكنه لم يستغل قربها في يوم ولا استغلت قربه في شيء.

لشخصية محمود درويش وطباعه الفضل في تطور واستمرار هذه الصداقة منذ 1972. فهو شفاف وصادق مثل شعره. وقبل ان يتفرغ لاحدى الراحتين ويبدو حزيناً في العمق، كما بدا لي امس، اعطى نفسه بكليتها للقضيتين: فلسطين والشعر. ومن الصعب ان نحافظ في مثل هذه الحياة على مثاليتنا وخصوصيتنا، ولكن محمود واحد من قلة صمدوا حيال كل ما هو خارج عن ذواتهم من تأثير في عالمهم الخاص او العام.

جاء الى باريس بدعوة من الناشر (اكت سود) الذي ترجم مجموعته الجديدة «لا تعتذر عما فعلت» التي صدرت في بيروت عن دار «رياض نجيب الريس للنشر».

وفي زيارته يلتقي عدداً من الصحافيين والادباء وفقاً لبرنامج يضعه الناشر. وقد ذكَّرته بزيارته الماضية الى فرنسا حيث تركت احاديثه الصحافية اثراً نسائمياً رقيقاً لا يتركه السياسيون. جميلة ونبيلة لغة محمود درويش. وهي من افضل واجمل ما حدث للشعر الفلسطيني. لقد نقل الشعر والقضية معاً من جيل الى جيل ومن ايقاع الى ايقاع: من ابو سلمى وفدوى طوقان الى جيل رام الله.

ثمة جيل يولد في الذاكرة الفلسطينية اليوم. الجيل المحاصر بعد الجيل المشرد. الجيل الذي يرى ان زعيمه كان يحلق من بلد الى بلد بحثاً عن حقوق شعبه، فاصبح اسيراً في غرفتين، يخرج الى الشمس خارجهما. وسألت محمود ان كان يرى ابو عمار، فقال انه زاره قبل اسبوع واحد. وقلت كيف معنوياته فقال انه رجل عجيب مصنوع من عصب. وقلت له، الن يرتاح؟ قال انه لا يؤمن الا براحة واحدة.