أمريكا: نعي الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي

TT

في حفل حميم بهيج مع ارئيل شارون، قرر«!!» الرئيس الأمريكي جورج بوش: الغاء (حق العودة) الفلسطيني.. وقرر: ألاّ انسحاب اسرائيلي من الأرض الفلسطينية المحتلة: الى حدود عام 1967.. وقرر أن المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية باقية.

ومن أجل رؤية اجتهادية لفهم هذا الموقف نسأل: لماذا اتخذ الرئيس الأمريكي هذا الموقف؟

1 ـ هل اتخذ هذا الموقف من اجل الاستمرار في سياسة (التغطيات التصعيدية المتوالية) وهي سياسة تهدف الى تغطية (الصخب الراهن): بصخب لاحق أشد دويا.. فحين اشتد الكرب في العراق بمذبحة كربلاء في أوائل محرم، وتكاثرت الأصوات الناعية للوجود الاحتلالي الامريكي هناك: غطي هذا الحدث المروع باغتيال أحمد يس: زعيم حركة حماس (وكأن هناك وظائف متبادلة بين الليكوديين في كل من امريكا واسرائيل في سياسة التغطيات التصعيدية هذه).. وبينما الناس منشغلون بهذا الأمر: عتم على حدث الاغتيال باعلان تونس: وفاة القمة العربية التي كان من المقرر ان تنعقد فوق أرضها.. وبينما الناس مشغولون بتفسير ما حدث لمؤتمر القمة العربية: تردت الأوضاع في العراق ترديا مخيفا: حوّل أبصار الناس من القمة العربية الى العراق.. وبينما الناس يتابعون ما يجري في العراق بلوعة وتوتر، وبينما ارتفعت معدلات النقد للسياسات الامريكية في هذه القضية، وهو نقد أثر في شعبية الرئيس الامريكي: تأثيرا عميقا وحادا.. في هذه اللحظات: عمد جورج بوش الى (دفن القضية الفلسطينية ونعيها).. وها هنا: يلزم الانتباه الى: أن هذا الدفن أو النعي قد يغطى او سيغطى بحدث ما: يلهي العالم عن هذه (الجريمة التاريخية).. ومن المفارقات العجيبة في سياسة التغطيات التصعيدية هذه: ان تنظيم (القاعدة) يدخل على الخط دوما!!.. ففي ذات اللحظات التي انشغل فيها الرأي العام العربي الاسلامي والعالمي بـ(فعلة) الرئيس الامريكي: انشغال نقد وتذمر واستنكار.. في هذه اللحظات: ظهر على شاشات الفضائيات شريط: يخاطب الأوربيين بالكف عن المشاركة في قتل المسلمين: مقابل سلامة الأوربيين انفسهم. وقد زاحم هذا الشريط ـ في الترتيب الخبري والاهتمام العام ـ : أنباء دفن القضية الفلسطينية على أيدي الادارة الأمريكية.. ولهذا النمط من التزامن: مثلات... فما بين أحداث 11 سبتمبر وبدايات قصف افغانستان، كان العالم كله ـ تقريبا ـ بما في ذلك اوربا نفسها، يتحدث باستفاضة ناقدة عن (ضعف الأدلة الأمريكية المسوغة للحرب). وكانت امريكا التي قررت شن الحرب تعاني حرجا شديدا في هذا المجال.. وفي هذا الظرف البالغ الحرج: جاءها الفرج متمثلا في خطاب اذاعه لامع في تنظيم القاعدة اعترف فيه بمسؤوليتهم عن احداث 11 سبتمبر.. ومتى أذيع هذا البيان؟.. قبيل قصف افغانستان بساعات!!.. فماذا هنالك؟.. هل هو خبل في التقدير السياسي؟.. أو (تلفيق) للأشرطة.. أو تواطؤ؟.

2 ـ هل اتخذ الرئيس الأمريكي هذا الموقف من اجل إحكام تدابير مكافحة الارهاب؟.. هذا احتمال غير معقول. ذلك ان هذا الموقف ينشئ الارهاب انشاء، ولو كان غير موجود اصلا. فالمواقف المجنونة هي خميرة ردود الفعل المجنونة. وحين يسود الجنون: يستباح كل شيء، وتستخدم كل وسيلة. وعندئذ يفقد عالمنا الأمن والسلام.. وكأن قد.

3 ـ هل اتخذ الرئيس الامريكي هذا الموقف: وفاء للدستور الأمريكي؟.. لا.. لا.. فالتعديل الأول من الدستور الأمريكي ينص على (حياد) الجمهورية الأمريكية تجاه الأديان، بمعنى أنها لا تتبنى دينا، ولا تنحاز لدين.. وفي تصريحات الرئيس الأمريكي الخاصة بحق عودة الفلسطينيين الخ: خروج على هذا النص الدستوري. فهي تصريحات تتبنى (مفهوما دينيا) للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. فقد قال: «ان عودة الفلسطينيين تتناقض مع طبيعة الدولة اليهودية»!!

4 ـ هل اتخذ هذا الموقف من منطلق (ديمقراطي).. لا.. لا.. لا.. لا. فهو اولا لم يستشر (اللجنة الرباعية)، ولم يحصل تصويت ـ من ثم ـ على القرارات التي اعلنها. ومما لا ريب فيه: ان عدم الاستشارة والتصويت استبداد، لا ديمقراطية.. ثم هو موقف غير ديمقراطي من حيث انه أهدر الأسلوب الديمقراطي في هذه المسألة.. فهناك نحو خمسة ملايين فلسطيني في الشتات.. ومن صميم الديمقراطية: ان يجري استفتاء ديمقراطي حر ونزيه وموسع لمعرفة رأي الفلسطينيين في العودة.. أما ان يقرر رجلان غير فلسطينيين ـ لم يفوضهما فلسطيني واحد ـ : ان يقررا: الغاء حق العودة لملايين الفلسطينيين، وهو قررته معظم أمم العالم ودوله بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ذي الرقم 194 الذي ينص على ان الجمعية العامة «تقرر وجوب السماح بالعودة في اقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة الى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة الى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقا لمبادئ القانون الدولي والإنصاف: ان يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات او السلطات المسؤولة: ان يحدث ذلك فهذا سلوك غير ديمقراطي.. ويبدو ان (احتقار) الديمقراطية اصبح هواية وإدمانا. فبعد ساعات من صدور هذا (الوعد البوشي) الجائر: قررت لجنة حقوق الانسان الدولية وطالبت بوقف الاستيطان الاسرائيلي، واتخاذ التدابير لازالة الجدار العنصري العازل. ولم تكد اللجنة تنطق حتى سارع مسؤول امريكي ليقول: «إن قرار اللجنة منحاز ولا يخدم جهود السلام»؟!.. القرار الحق منحاز ولا يخدم السلام.. أما القرار الباطل فهو غير منحاز ويخدم السلام!!.. في أي عالم منافق نحن؟.. وأي معنى، وأي طعم للغة والعقل والمنطق والعدل والضمير المسؤول في عالم كهذا؟.. ومن الأدلة على ان هذا الموقف لا ينطلق من منطلق ديمقراطي: ان بريطانيا (حليف أمريكا الأول) رأت: ان الموقف الامريكي عديم الديمقراطية فقررت الابتعاد او الفرار منه. فقد قال وزير خارجية بريطانيا (جاك سترو).. : «إن الرئيس بوش تصرف في هذا الأمر من عند نفسه، وان لبريطانيا رؤيتها المستقلة، ولذا فهي تنأى بنفسها عما قالته الادارة الأمريكية بخصوص القضية الفلسطينية».

5 ـ هل دافع الموقف هو: خدمة السلام والحرص عليه؟.. لا.. لا.. لا. فمن يحب السلام ويصدق فيه لا يسعى لاقامته على الظلم والجور. ففي اعقاب الحرب العالمية الأولى: حصل (سلام)، بيد ان اتفاقيات السلام هذه كانت قائمة على الظلم والاستعلاء والرغبة في اذلال المنهزمين. ولذا اصبحت هذه الاتفاقات الظلوم قاعدة ومسوغا للحرب العالمية الثانية.. بهذا الموقف الأمريكي: ابتعد السلام ـ على افتراض انه كان موجودا في الأساس ـ . والمسؤول عن ذلك هم الذين يؤيدن ويناصرون ـ بعمى تام ـ اعداء السلام كشارون وزمرته.

6 ـ هل الحافز الى هذا الموقف هو: الحرص على مصالح الولايات المتحدة وأمنها؟.. لا.. لا.. لا. فلا مصلحة ولا أمن في سياسات تحوّل العالم العربي الإسلامي، وقطاعات ضخمة من العالم الانساني كله الى بشر ـ يعدون بالبلايين ـ يمتلئون كراهية للولايات المتحدة ـ بسبب تصرفات قلة من ابنائها ـ . ذلك ان من بدهيات المصلحة والأمن انهما لا تتحققان ولا تتوطدان في مناخات الكراهية والتذمر والنفور.

7 ـ هل الداعي الى هذا الموقف هو: تسجيل (مجد جديد) للحضارة الغربية؟.. لا.. لا.. لا. فأي مجد في نصرة الظالم، واضطهاد المظلوم؟.. اي مجد في (تأصيل) الجور، ومباركة الطغاة الجائرين، والمسارعة في هواهم على يد قوم يزعمون انهم يدافعون عن العالم الحر؟.. وهل يشرف الغربيين وحضارتهم: ان يجري هذا باسمهم؟.. الأمر على النقيض من ذلك. بمعنى: ان الغربيين ـ في الجملة ـ يرون في الموقف الامريكي: عارا وخزيا ووصمة تنتقص بل تهدد مجد الحضارة الغربية. ولهذا السبب سارعت بريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوربي الى (البراءة) من هذا الموقف الوصمة.

8 ـ هل الموجب لهذا الموقف هو: تعزيز حقوق الانسان والقانون الدولي؟.. لا.. لا.. لا. فالذي حصل من امريكا هو (اهدار بواح) لحقوق الانسان الفلسطيني، ولا سيما حقه في العودة الى وطنه. فالمادة 13 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تقول انه «يحق لكل فرد ان يعود الى بلده».. ومن هذه الحقوق التي قررها القانون الدولي في ميثاق الأمم المتحدة: حق تقرير المصير. فالفقرة 2 من المادة الأولى من هذا الميثاق تؤكد «المساواة في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها».. في حين ان الموقف الأمريكي يلغي هذه الحقوق ويصادرها.

9 ـ هل المقتضى لهذا الموقف هو: الالتزام بقيم المسيحية وتعاليم المسيح؟.. لا.. لا.. لا. فالمسيح ابن مريم ـ عليه السلام ـ جاء بالحق، لا بالباطل، وبالعدل، لا بالظلم، وكان سلوكه من البدء الى المنتهى: نصرا للحق والعدل، ومقاومة للباطل والظلم. ومن هنا، فإن التناقض قائم بين تعاليم المسيح وبين الموقف الأمريكي الناصر للباطل، الخاذل للحق. وبسقوط هذه الاحتمالات. فماذا عساه ان يكون الدافع والداعي الى هذا الموقف الشاذ؟

الراجح: ان الدافع (ايدلوجي)، اي ان هناك هوى او تجانسا ايدلوجيا بين شارون وبين نفر في الادارة الأمريكية.. والتاريخ البشري يثبت: انه حين تحضر الايدلوجيا ـ بمعناها المتعصب والحالم ـ : يغيب العقل، ويحضر الجنون أو الهوس.

والراجح: ان الدافع (انتخابي).. فمن الواضح: ان السجل الانتخابي غير ابيض وغير مربح. فمن الاكاذيب في اسباب الحرب على العراق. الى التورط في مستنقع العراق. الى الضعف الاقتصادي العام. الى ارتفاع معدلات الارهاب. الى التدني المتتابع في الشعبية بسبب ذلك كله... ولما كان السجل الانتخابي في هذا المستوى من الوهن، فان الورقة الباقية هي (الصوت اليهودي) في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويظهر ان المرشح المنافس أدرك هذه اللعبة فسارع الى القول بأن عودة الفلسطينيين تنال من (طهارة الدولة اليهودية ونقاوتها)!!.

وهذه مأساة.

مأساة كبرى، ومأتم عام للقيم السياسية والاخلاقية: ان تجرى (مضاربات بحقوق الشعوب ومصائرها) أو جعلها (ورق لعب) على مائدة القمار الانتخابية.