غزة بغداد ..أفق ما بعد تسليم المفاتيح ..!

TT

ثمة شيء يختمر في غزة يمكن أن يساعد المسؤولين الأميركيين على التفكير في الكيفية التي يمكن أن يتعاملوا بها مع الأوضاع التي وصلت درجة الغليان في العراق. ولك أن تفكر في مقال مثير للاهتمام نشر بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية فحواه أن السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ومنظمة حماس، ورغم شراسة المنافسة التي كانت بينهما، قد قطعا شوطا كبيرا في الاتفاق على إقامة إدارة جديدة لقطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي من جانب واحد، من هناك. ونقلت الصحيفة عن زعماء حماس قولهم إنهم مستعدون حاليا للاشتراك في إدارة غزة بعد تحريرها، بمجهود حماس، كما توحي التصريحات، وليس في إطار اتفاقيات أوسلو التي تعارضها المنظمة.

الدرس الذي أستنتجه من هنا هو : لا شيء يؤسس للمرجعية والمحاسبة مثل المسؤولية. فقد أعلن أرييل شارون عزمه على سحب قواته ومستوطناته من قطاع غزة بدون اتفاقية رسمية مع الفلسطينيين، بعد أن تخلى شارون كليا عن التفاوض مع عرفات، دع عنك حماس، كما توصل في نفس الوقت إلى أن إسرائيل لا يمكنها أن تواصل احتلال كل هذه الأراضي وتبقى مع ذلك دولة ديمقراطية يهودية. ولذلك قرر الانسحاب الانفرادي من غزة، بالضبط كما فعل سلفه إيهود باراك عندما انسحب من جنوب لبنان. وكان الشعار في الحالتين: خذوا هذه الأرض، إنها لكم.

وما استنتجه من مقالة «هآرتس» هو أن عرفات وحماس يتفهمان حقيقتين: الأولى هي أن عليهما أن يهنئا بعضهما صبيحة انسحاب إسرائيل باعتبارهما القوى التي حررت غزة. والحقيقة الثانية هي أنه في صبيحة اليوم التالي لصباح الانسحاب سيطالب سكان غزة كلا من عرفات وحماس بتوفير الوظائف والمياه والكهرباء. صحيح أن عرفات وحماس سيستمران في صب اللعنة على إسرائيل وتحميلها المسؤولية عن النقص في كل هذه الأشياء، ولكن هذه الادعاءات لن تستقر هذه المرة في رؤوس أهل غزة، ما دامت إسرائيل انسحبت، وبشريطة أن تكون إسرائيل من الذكاء بحيث توفر بعض الفرص للغزاويين للانفتاح على العالم، حتى لا يبقى القطاع سجنا كبيرا كما هو الآن، وشريطة أن تنسحب إسرائيل كذلك من بعض المستوطنات في الضفة الغربية.

ويمكن أن تسألوا حزب الله عن مثل هذه الأمور! فرغم كل إدعاءاته حول طرد إسرائيل من جنوب لبنان ونواياه المعلنة عن الزحف على القدس، فإنه لم يجرؤ مطلقا على عبور الحدود الإسرائيلية بعد أن انسحبت إسرائيل إلى الحدود المقرة من قبل الأمم المتحدة.

فلماذا لم يحدث ذلك؟

لأن حزب الله يعرف أنه ما دامت إسرائيل انسحبت إلى الحدود المقرة من قبل الأمم المتحدة، فإنها وقفت على أرضية أخلاقية واستراتيجية عالية، وأنها ستقصف محطات توليد الكهرباء في بيروت إذا غزاها حزب الله. ولا يريد حزب الله أن يتحمل تلك المسؤولية.

الى ذلك يقول الباحث الإسرائيلي يارون إزراحي:

ربما يكون من الأفضل أن تدعي حماس أنها هي التي طردت إسرائيل. فإذا كانوا هم المسؤولين عن تحرير غزة، فإنهم سيكونون مسؤولين أيضا عن إدارتها. وبينما يقلل ذلك من مسؤولية إسرائيل ، فإنه يضاعف من مسؤولية حماس. والطريق الصحيح لتخفيض درجة العنف هو خلق إطار يكون فيه القادة الفلسطينيون، وليس إسرائيل، هم الذين يتحملون المسؤولية أمام شعبهم عن النتائج السلبية للعنف.

وهذا يقودنا إلى التحدي الذي يواجهنا في العراق. ولا شك أن المسؤول الأميركي في العراق، المستر بول بريمر، محق كليا عندما يصر على ضرورة نقل السيادة إلى العراقيين في اليوم المحدد، أي 30 يونيو هذا العام. لماذا؟

لأننا ربما ندرب الآلاف من ضباط الشرطة العراقيين، ولكن إذا لم تقم حكومة عراقية فإن هؤلاء سيشعرون بأنهم يدافعون عن أميركا، وهو شيء لن يفعلوه بأي جدية. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدافعوا عنه دفاعا حقيقيا هو الحكومة العراقية الخاصة بهم. يضاف إلى ذلك أن كثيرا من القادة العراقيين يلومون الولايات المتحدة على كل الأخطاء التي تقع في العراق. ومع أن فريق بوش يستحق كثيرا من اللوم، إلا أنه لا يستحق كل اللوم. ولكن القادة العراقيين الجدد لن يشرعوا في التصرف والعمل بتنسيق ومسؤولية، إلا عندما تؤول إليهم الأمور، ويقع على أكتافهم عبء المسؤولية، كما وقع على أكتاف عرفات وحماس.

أنا لا أدعو إلى انسحاب انفرادي من العراق. بل أدعو إلى بذل كل ما نملكه من الطاقة لدعم جهود الأمم المتحدة لنقل السلطة من مجلس الحكم الحالي إلى حكومة شرعية واسعة القاعدة، تحكم العراق بدءا من يوم 1 يوليو تموز 2004، وحتى موعد الانتخابات في يناير (كانون الثاني) 2005. ومع أن ذلك يعتبر أمرا صعبا إلا أنه ليس مستحيلا. فبعد عقود من الاستعمار والحكم الفاسد، وبعد دكتاتورية خانقة في مجتمع عراقي منقسم على نفسه قبليا، صارت الهوية القومية للعراق ضعيفة واهنة. وستتعرض إلى مزيد من الإضعاف بفعل عدم الاستقرار لأن الناس حينها سيلوذون بانتماءاتهم القبلية. ومع ذلك فإن الهوية العراقية موجودة وتحتاج إلى الاستقرار لتبرز بكل قوتها. بل حتى العراقيين أنفسهم لا يعرفون كم هي قوية هويتهم هذه، ولن يعرفوا إلا بعد أن يتسلموا المفاتيح.. حينها نستطيع أن ننقل المسؤولية في إعادة بناء العراق، أو إعادة تدميره، إلى العراقيين أنفسهم. كما أنهم لن يشعروا بالمسؤولية إلا بعد ذلك. والمسؤولية هي الأم الحقيقية لضبط الذات وحكمها.

*خدمة «نيويورك تايمز»