الهجرة إلى الأطراف والتطرف وأشياء أخرى

TT

لم يكن صعباً أن أجد في معاجم اللغة تعريفاً للتطرف والوسط، وأظنه أيضاً لن يكون صعباً اذا ما حاولنا نحن من خلال نظرتنا لواقعنا أن نضع تعريفاً أو مفهوماً مجتمعياً لتلك اللفظية.

التطرف في اللغة هو: لفظ مشتق من «الطرف» أي الناحية، أي منتهى كل شيء، وتطرف في لسان العرب يعني «أتى الطرف» وجاوز حد الاعتدال وابتعد عن «الوسط». اذاً باختصار فإن التطرف هو التنحي، تجاوز حد الاعتدال: أي البعد عن الوسط.

ما سبق هو التفسير اللغوي، والذي أظن أنه لن يتناقض كثيراً مع محاولة تعريفنا أو تلمسنا لحضور هذين المعنيين في مجتمعاتنا. في ظني أن أخطر ما يمكن أن يهدد مجتمعاً من المجتمعات أن يصاب في منطقة الوسط، وذلك عندما تتحول منطقة الوسط والاعتدال فيه الى منطقة طاردة نحو أطراف المجتمع، وفي هذا السياق، فإن هجرة أبناء المجتمع الى أطرافه هو اضعاف أكيد لبنية هذا المجتمع.

في ظني أيضاً ـ وبعض الظن صحيح ـ أن قوة المجتمعات تقاس بعمودها الفقري ـ سياسياً وديموغرافياً واقتصادياً ـ وهذا العمود الفقري هو منطقة الوسط، بمعنى أنه كلما كانت سياسات وسلوكيات ومواقف واقتصادات المجتمع تتركز في منطقة الاعتدال وعدم الغلو والتجاوز، كلما كان ذلك دليل صحة وقوة لهذا المجتمع. وكلما كان الأمر عكس ذلك، فإن ذلك دليل لا ريب فيه على أن المجتمع يواجه أزمة، تتفاوت حدتها وخطورتها بدرجة هجر منطقة الوسط والهجرة نحو الأطراف.

الإرهاب والإدمان هما وجهان لعملة واحدة، وهما نتيجة لهجرة المنتمين لهما الى تلك الأطراف، كذلك التزمت والانفلات، التسول والسرقة، الغنى الفاحش والفقر المدقع، كل تلك المتناقضات هي أبناء لحالة انهيار الوسطية والاعتدال في المجتمع. عندما يضطر الشباب أن يترك منطقة الاعتدال في المجتمع، أو يطرد منها، فإنه يهاجر الى أحد أطراف المجتمع، وهذا الطرف الذي يهاجر إليه يمكن أن يكون طرف الإرهاب أو طرف الإدمان، الدوافع التي تدفع هؤلاء الشباب الى هذه الأطراف تكاد أن تكون واحدة، ولكن تتدخل عوامل أخرى محيطة هي التي تحدد أي طرف متجاوز يتم تسكين هذا الشاب فيه. كذلك فإن حالة العري التي تقابلها حالة الاختفاء والتمترس وراء كل ما يمكن من ثياب وسواتر، هي نتاج لعوامل الطرد التي تدفع بأولئك الفتيات والنساء الى الهجرة الى طرف التعري أو التخندق.

باختصار فإن غياب الوسطية، التي تعني العدل والسماحة عن المجتمع، تدفع بأبنائه الى الهجرة الى أطرافه، ويدفع ثمن ذلك المجتمع بكل عناصره، هذه الحالة من الهجرة من الوسط الى أطراف المجتمع لها عوامل متعددة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وهذه العوامل منها أيضاً ما هو داخلي وما هو خارجي. ولكن العنصر الغالب والحاضر دائماً في كل هذه العناصر هو الإحساس بغياب العدالة وغياب الإحساس بالحضور والمشاركة. ويمكننا ببساطة ودون أن نفرط في التفاصيل الكثيرة أن نلمس تطبيق هذا الغياب للعدالة وذلك التغييب للمواطن في كل العناصر التي ذكرناها من قبل، داخلياً وخارجياً.

فغياب العدالة الاقتصادية في المجتمعات، وغياب العدالة السياسية، والحرمان من حق المشاركة في القرار، والتغييب الفكري والسياسي، كل هذه الآثام تتحملها نظم الداخل، السياسية والاجتماعية والثقافية، وبعض من القوى الخارجية التي تمارس أقسى أنواع الظلم في ممارساتها تجاه المنطقة.

كل هذه العوامل جميعاً لا تفعل شيئاً إلا خلق حالة من اليأس لدى أبناء المجتمع تجعلهم يكفرون بالعدالة والسماحة، ولا يجدون رداً مناسباً على هذه الحالة إلا بالهجرة الى الأطراف المختلفة بتناقضاتها، ويتحول المجتمع الى حالة انقسام حادة، مواجهة منتظرة في أي لحظة، وهذه الحالة من المواجهة أو الصدام المتوقع لن يجد المجتمع وقتها منطقة فيه قادرة على امتصاصه، لأن المنطقة الوحيدة المؤهلة للقيام بهذا الدور هي منطقة وسط المجتمع التي هجرها أهله وكفروا به.

قد يبدو ما فات وكأنه حالة من التفلسف أو الهلوسة الكلامية، ولكن إعادة قراءة تلك الهلوسات ومحاولة تطبيقها على واقعنا، يمكن أن تقود الى نتيجة تقول إنها ليست هلوسات ولكنها كابوس يملك من مقومات الواقع الكثير، ولن يكفي التمني أن يحول دون تجنب نتائج هذا الكابوس، ولكن ادراك هذه الحالة والتعامل معها من قبل النخب الحقيقية في المجتمع، واستعادة روح الحوار الجاد والحقيقي، قد يكون هذا بداية لإعادة الأمل لأبناء المجتمع للعودة من مهاجرهم في الأطراف الى الوسط.

[email protected]