رؤى وتأملات في «سيكولوجية» التعذيب

TT

في حياتي الصحافية الطويلة كثير من السجون والمعتقلات، وذكريات ومعلومات لم تنشر عن قصص تعذيب مروعة في أساليبها عرفها ساسة وأصدقاء وزملاء.

أسارع إلى القول إني لم أعتقل أو أسجن يوما واحدا. ولم أضرب أو أتعرض للإهانة على يدي جلاد مرة واحدة ولم أعمل في السياسة، لكن تقلبات السياسة انعكست على حياتي كصحافي وكاتب، فجعلتها نوعا من القلق وعدم الاستقرار. وكلاهما عذاب نفسي هائل. النظام العربي شديد الغيرة، فهو لا يقبل من الصحافي إلا أن يكون معه أو ضده. والمعارضة أيضا تتهم الصحافة فورا بالعمالة أو مجاملة النظام، إذا حاول أن يقدم رؤية أمينة ومستقلة.

الصحافي وليس المثقف أو السياسي أو الإنسان العادي، هو الأكثر احتكاكا بالسلطة وأجهزتها السرية. كنت أذهب إلى التحقيق أحيانا أكثر من مرة في الأسبوع. وعرفت محققين وجلادين مخيفين. وعندما أتذكر الآن أعتبر نفسي محظوظا وسعيدا، لأني نجوت في كل مرة دخلت معتقلا أو مركز تحقيق وخرجت بعد ساعات.

أعزو ذلك إلى أمرين اثنين: عدم تورطي في نشاط سياسي أو حزبي، ثم الشجاعة الأدبية في المواجهة. عندما تضعف أمام المحقق أو الجلاد، فتبكي وتتوسل وتنهار، فاعرف أنك ستهان وتعذب وتضرب.

قال لي ضابط تحقيق كبير بعد جلسات تحقيق طويلة: «في المقعد الذي تجلس أنت عليه، بكى ساسة وصحافيون». وفي نهاية مسلسل التحقيق، أخرج مذكرة من مسؤول الأمن السياسي في الدولة يأمر فيها باعتقالي، إذا ثبتت علي الوشاية.

واجهت مواقف حرجة كثيرة. اعتقل زميل لي خلال محاولة فرار إلى خارج البلاد مع ضابط عسكري. قال لي كبير المحققين: كيف ترأس قسما فيه صحافي شيوعي من دون أن تبلغ عنه؟ قلت له إن الصحيفة ليست سفارة مغلقة على المخلصين والموالين. راح يخبط بكفه على مكتبه وهو يتهم زملاء آخرين بأنهم شيوعيون. ودافعت عنهم بحرارة، فلم يكونوا كذلك. وبعضهم اليوم كتاب معروفون، وأحدهم موظف كبير لدى رئيس عربي عاش وحكم طويلا. أما المحقق فقد أصبح وزيرا خطيرا في عهد آخر.

بل ارتبطت بصداقات مع محققين كانوا أناسا عاديين جدا وظرفاء جدا خارج المعتقلات. كان ضابط كبير فيهم يصر على دعوتي لنلعب كرة الطاولة (بيم ـ بوم) في بهو معتقل كبير كان بيتا لرئيس جمهورية أسبق. كنت أسمع صراخ المعتقلين والمعذبين. عندما أعترض كان لا يبالي. كان يقول لي إن زملاءه وليس هو يمارسون التعذيب. وكان صادقا، وترك عمله إثر سقوط النظام الذي عمل معه وهو يحتفظ بصداقات أناس كثيرين حقق معهم من دون أن يؤذيهم. وكنت واحدا بينهم. بل أعطيته مفتاح بيتي ليقيم عندي إذا ما أحس أنه معرض للملاحقة، وهو يعرف أني أكنُّ لنظامه القمعي كراهية مطلقة.

وأكشف سرا شخصيا فأقول إن عبد الحميد السراج وهو واحد من أكبر قادة الأمن والسياسة الذين عرفهم العالم العربي المعاصر، أنصفني بعد التحقيق بنفسه في حملة عداء شخصية تعرضت لها من مسؤول إعلامي كبير.. ولم تتسن لي مقابلة السراج إلى الآن لأشكره على موقفه.

أحببت أن تكون هذه الذكريات الشخصية تمهيدا لحديث عام غير أنيس اومحبب للنفس عن التعذيب الذي بات اليوم حديث العالم كله بعد صور أميركا المعذِّبة والمعذَّبة في العراق.

أترك الانعكاسات السياسية للفضيحة الأميركية، لأركز على الجانب السيكولوجي (النفسي) لإشكالية التعذيب. تعريف التعذيب، كما هو وارد في المعاهدة الدولية ضد التعذيب (1984) هو كل فعل يسبب ألما جسديا أو معاناة عقلية يمارسها موظف حكومي. المشكلة أن معاهدات ومواثيق حقوق الإنسان ومكافحة جرائم الحرب ليست ملزمة للدول فهي مبادئ عامة تدرج في صلب الدساتير، وتنتهك في صميم القوانين والإجراءات القمعية.

حتى الولايات المتحدة التي تذكِّر كل سنة الدول «القمعية» بسجلها المظلم، ترفض التوقيع على معاهدات تعرّض مسؤوليها (دونالد رامسفيلد مثلا) للملاحقة القانونية في دولة أخرى، بتهمة ارتكاب مثل هذه الجرائم. ولعلنا قادرون على تصور ما يحدث في معتقل غوانتانامو بعدما رأينا ما يحدث في سجن أبو غريب.

فضحت الصور مثالية أميركا وبراءتها أمام العرب والعالم. لقد نشأت منذ صغري على «إنسانية» الجندي الأميركي في التعامل مع الأسرى والمدنيين في الحرب العالمية الثانية. لقد انهارت هذه البراءة الكاذبة. فالجندي الأميركي لم يكن يقل وحشية عن الجندي النازي أو الياباني.

فجنود أميركا في العراق هم نتاج مدينة الجريمة والعنف وقسوة الرأسمالية والحياة الفردية. ليندي انغلاند (21 سنة) التي شاهدناها تجر عراقيا عاريا من رقبته بزنار جلدي، هي حالة نفسية معقدة: حياة عائلية قلقة. هوايات عنفية كالصيد. عناد شخصي. رغبة مطلقة في الاعتماد على النفس. زواج غير موفق. طلاق ثم علاقة غير شرعية مع زميل سجان حملت منه سفاحا. وأخيرا هوى شخصي في الانتساب إلى مؤسسة عنفية كالمؤسسة العسكرية.

المرأة، لدى بعض علماء النفس، قد تفوق الرجل في القسوة والعنف الكامنين في أغوار النفس فهما يختفيان وراء ملمس ناعم، وصوت رقيق، وجمال أو ذكاء باهر. في «الكونتيسة العارية» نرى الراحلة ايفا غاردنر تستمتع بمصارعة الثيران، وتعلق بغرام مصارع قاتل للحيوان بلا رحمة.

التعذيب، لدى كثيرين من علماء وأطباء النفس، نوع من السادية الجنسية، تلك الرغبة في إيذاء الآخر، لتحقيق النشوة، وعند بعضهم هو نوع من انفصام الشخصية، فالجلاد وحش في السجن، إنسان عادي في حياته خارجه يبدأ الجلاد حارسا في سجن ثم مشاهدا لحفلات التعذيب، وينتهي مشاركا محترفا.

كلما تراجع الاحتكاك بين الجلاد والمعتقلين، تضاعفت قدرته النفسية على إلحاق الأذى والإهانة بهم. حاجز اللغة واختلاف العقلية والثقافة بين الجنود الأميركيين والمعتقلين العراقيين، تسبب في هذه اللامبالاة والمتعة التي بدت على وجوه الجنود وهم يمارسون بشاعاتهم.

عامل الجنس يلعب دوره. فإهانة المعتقل جنسيا باغتصابه أو إيذائه في مناطق حساسة، تدمر توازنه النفسي والعقلاني، وتبعث النشوة الجنسية حتى لدى المجندات، ولا تسبب رؤية الرجل العاري أي إحراج لهن أمام زملائهن الجنود. فهن آتيات من مجتمع باتت الحرية الجنسية فيه رمزا للحياة الاجتماعية.

لكن لا يخالجني شك في أن حرفة التعذيب احتلت وتحتل مكانة عربية أكثر «تقدما» وتقنية في التعذيب الجسدي، بسبب غياب الحرية السياسية. الأميركيون أعادوا ويعيدون بعض معتقلي غوانتانامو إلى دولهم، لأنهم يعرفون أن تعذيبهم فيها يفوق كل ما يجري في المعتقل الأميركي المخيف.

ارتبط التعذيب في المخيلة العربية بالمؤسسة المخابراتية. حلت هذه المؤسسة محل المؤسسة العسكرية في حماية النظام وأمنه، الأمر الذي جعلها تمارس حرية بلا رقابة تُذكر على السجون والمعتقلات. أذكر عندما طالبت الحكومة المدنية بإعادة إشراف وزارة الداخلية على قوى الأمن والشرطة التي ألحقت بوزارة الدفاع في سورية، سارع العقيد أديب الشيشكلي رجل الجيش القوي إلى قلبها، وتولي الرئاسة والسلطة مباشرة.

التعذيب «الآيديولوجي» أكثر وسائل المواجهة عنفا وبدائية. تنهار هنا العلاقة الإنسانية وروابط المواطنة. المعتقلون، في نظر الجلادين، خونة سياسيون أو زنادقة وكفرة لا بد من استئصالهم أو تعذيبهم لردعهم أو لهدهدة «ثوريتهم» أو إصلاح «رجعيتهم». مات 17 ألف معتقل تحت مقاصل الثورة الفرنسية ومثل هذا العدد في «فراديس» الثورة الخمينية.

الغريب أن التعذيب تراجع في القرن التاسع عشر بعدما روع القرون الوسطى. لكن عاد ليصبح في القرن العشرين آفة العصر. ابتكر الخيال الإجرامي تقنيات ومعدات وأساليب تعذيب، لا يمكن أن يصمد أمامها إنسان مهما أوتي من قوة احتمال أو إيمان. وللعالم الشيوعي المنهار أسبقية في هذا المضمار ما لبثت أن استوردتها أنظمة عربية كثيرة، فيما الديمقراطيات الغربية تعتمد التعذيب النفسي الذي لا يقل إيلاما ومعاناة.

أعود إلى الصحافة، لأذكر بأن صحافيا أميركيا كبيرا هو سايمور هيرش كان أول من اخترق جدار الصمت والرعب ليفضح ادارة بوش بمسؤوليتها عن التعذيب في العراق. وهيرش يهودي ليبرالي معروف بصلاته الوثيقة بالمؤسسات المخابراتية. فهل كانت الإدارة ضحية الصراع الخفي بين أجهزتها؟ أم هي الديمقراطية التي تمنح صحافيا القوة على فضح مؤسسات مخيفة؟

السؤال موجه إلينا، نحن الصحافيين والإعلاميين العرب؟ لقد ملأنا الدنيا صراخا ضد تعذيب أميركا للعرب، ولا نجرؤ على التفوّه بكلمة واحدة عن تعذيب العرب للعرب.