الشائع والأكيد عن قتل بيرغ

TT

زميل وصديق عزيز، تنطبق على علاقتنا الفكرية مقولة «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، تحداني بتهذيب، وربما من دون قصد، ان أستنكر وأدين قتل الأميركي نيكولاس بيرغ. وله في الواقع كل الحق، كقارئ وكصديق، ان يتوقع مني تجنّب اسلوب «الكيل بمكيالين» الذي طالما رفضته وما زلت.

وها أنذا، من منطلقات انسانية وأخلاقية وحضارية وسياسية، استنكر هذه الجريمة وأدينها، وأشارك الزميل في ما ذهب اليه، مع التشديد على رفض ربطها بالاسلام كدين وكحضارة.

فالشخص الذي أعدم ذبحاً أمام الكاميرا لم يُخضع لمحاكمة ولم يُدن بأي تهمة. وحتى في ما لو كان قد أدين يُفترَض ان الهيئة التي تصدر الأحكام باقامة الحد تتمتع بصفة شرعية. ثم ان من نفذوا حكم الاعدام ادعوا انهم انما يفعلون ذلك «انتقاما» لفظائع سجن أبو غريب من دون أي اشارة الى ذنب ارتكبه بيرغ. وهذا وحده يكفي لادراك ان الرجل لم يرتكب أي ذنب يستحق عليه هذه النهاية البشعة.

إن ذبح اي انسان ذبْحَ النعاج لا يقره دين ولا ترضى به حضارة ولا يليق بأي جهة تدّعي ان لها مطالب وعندها ظلامات تأمل من العالم التعاطف معها. واستغلال تقنية الاتصالات الاعلامية لترويج هذه الصورة وتسويقها على امتداد العالم تحت لافتة «الاسلام» افتئات على الاسلام واساءة متعمدة اليه. ولذا لم استغرب البتة مبادرة قوى سياسية اسلامية مجاهدة، مثل «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين، وكذلك قوى مثل «كير» (مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية) ـ أكبر جماعات الحقوق المدنية المسلمة الأميركية ـ، الى ادانة ما حدث بالقوة والصرامة المأمولتين.

أخيراً، نصل الى ما يتصل بالسياسة...

قوات الاحتلال الأميركي اتهمت منذ فترة رجلاً اسمه الحركي «أبو مصعب الزرقاوي» بأنه قيادي في «القاعدة» وناشط في العراق، ونقلت عنه سعيه لإثارة فتنة طائفية بين العراقيين السنة والشيعة. كما تفيد معلومات استخباراتية بتورطه بعدة عمليات داخل العراق وخارجه.

المراقب العادي، مثلي، لا يعرف عن هذا الرجل غير ما يقرأ ما كُتب عنه. بكلام آخر، انه يتلقى التقارير والمعلومات صحيحها وكاذبها، ولا أحسب انه على الأقل في المستقبل القريب سيكون في وضع يسمح له بتقييمها. ولكن ما نعرفه بلا أدنى ريب بضع حقائق:

1 ـ ظهرت عملية الذبح على موقع انترنت (يقال انه أغلق الآن)، ويفترض تقنياً انه كان يسهل رصده.

2 ـ القوى الاسلامية الرئيسية في المشرق العربي أدانت الجريمة صراحةً.

3 ـ والد الضحية يتهم قوات الاحتلال بأنها احتجزت ابنه لفترة. ويعرض رسالة الكترونية من دبلوماسية اسمها بيث باين حصلت عليها وكالة «اسوشييتد برس» تفيد بأن ابنه أوقف في الموصل قبل أسبوع وان ثمة مساعي تبذل لمعرفة معلومات أخرى عن ظروف توقيفه.

4 ـ والد الضحية يطالب الادارة الأميركية بالاجابة عن أسئلة تتعلق بعرض القتلة مبادلة ابنه بموقوفين عراقيين. ويشير في لقاء تلفزيوني الى ان ابنه سمح لأشخاص اتهموا لاحقاً بالارهاب باستخدام عنوانه الالكتروني.

5 ـ دان سينيور، الناطق الأميركي باسم سلطة الاحتلال، قال ان مسؤولين من مكتب التحقيقات الاتحادي («اف بي آي») الأميركي زاروا بيرغ في سجن عراقي بمدينة الموصل، لكنه شدد على ان بيرغ لم يكن موقوفاً عند القوات الأميركية.

6 ـ ضابط شرطة عراقي ابلغ شبكة «سي ان ان» الأميركية ان الشرطة العراقية أوقفت بيرغ فعلاً الا انها أخلت سبيله وسلمته للقوات الأميركية خلال بضع ساعات.

7 ـ الجنرال الأميركي ريكاردو سانشيز يقول ان «مصادره» ابلغته ان «الزرقاوي» ذبح بيرغ بيديه (!!؟؟) ومسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» يرجحون ذلك!.

كل ما سبق معلومات مكتوبة ومثبتة.

الا ان المثير جداً في جريمة قتل بيرغ توقيتُها الغريب. فهي فرضت نفسها على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف بينما كانت أزمة تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب تعصف بادارة الرئيس جورج بوش وتنذر باستقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد او تنحيته. ولكن خلال ساعات قليلة من وقوعها تحوّل الرئيس بوش وادارته ـ ولو مؤقتاً ـ من الدفاع الى الهجوم. وكان من مؤشرات الصدمة في الشارع الأميركي العادي، الذي تضايق من صور ابو غريب وخجل، ان كثيرين عادوا الى التصلب قائلين «علينا العودة الى لغة القوة ... فهؤلاء لا يفهمون غير لغة العنف».

هل في الأمر مصادفة؟

هل ثمة أناس بلغت حقاً من الانغلاق والتعصب حداً ما عادت تميز معه بين العنف الأخرق من أجل العنف والعنف المصلحي الابتزازي المدروس؟ أم ان علينا العودة من جديد الى «نظرية المؤامرة»؟