بين تونس وواشنطن وبودابست

TT

خلال اسبوع واحد سقط كل ضحايا العنف السياسي في العالم فقط على أراضي بلدين عربيين محتلين، ودعي لعقد مؤتمرين مهمين عربي ويهودي، وطمأن الرئيس الأميركي جورج بوش أقوى «لوبي» اسرائيلي في العالم (والمؤثر الأكبر على الكونغرس الأميركي) الى اعتباره أمن اسرائيل ـ ولو تحت قيادة جنرالاتها ـ جزءاً من أمن الولايات المتحدة. اليوم، بينما تنعم سري لانكا والفلبين وكولومبيا، وحتى الشيشان وكشمير، بهدنات قد تطول وقد تقصر، تشتعل النجف وكربلاء ورفح بالقصف وتلتحف الدمار وتنام وتصحو على لعلعة الرصاص.

العرب وحدهم تحت الاحتلال... العرب وحدهم دماؤهم رخيصة.

في العاصمة المجرية بودابست، بعدما تحقّق «الفتح» في الولايات المتحدة، يعقد حوالي ألف من القادة اليهود الأوروبين، جاؤوا من اكثر من 40 بلداً، مؤتمراً «للدفاع عن الهوية اليهودية» داخل «الاتحاد الاوروبي» في وجه ظاهرة معاداة السامية. وهم طبعاً يستحقون التهاني على هذه المبادرة حتى إذا كان تعبير «معادة السامية» صار فضفاضاً من حيث الشمولية والتأويل، مثل كلمة «الارهاب».

فالهجوم خير وسائل الدفاع، وبدلاً من ان ينتظر يهود أوروبا ما يقرره بشأنهم الآخرون ـ كما هو حاصل مع العرب ـ ها هم اعتمدوا على غريزة البقاء والدفاع عن النفس والتنظيم الدقيق والتعامل مع المؤسسات لا الأشخاص للتحرك نحو، ومن ثم التموضع داخل، كيان غربي عملاق آخر لهم فيه مصالح حيوية جمة.

وفعلاً، سبق ان تبنت الدول الـ 55 الاعضاء في «منظمة الامن والتعاون في اوروبا» خلال ابريل (نيسان) الماضي ما عرف بـ«اعلان برلين» الذي يلزمها بوضع إحصاءات تتعلق بالجنح المرتبطة بمعاداة السامية ونشرها. كما ينص «اعلان برلين» ضمن ما ينص عليه على ادراج دراسة «محرقة اليهود» في الحرب العالمية الثانية في مناهج التعليم، بجانب تحسين الآليات القانونية لمكافحة العنف والمضايقات العنصرية.

في المقابل، في تونس، تنعقد قمة عربية سبق ان أجّلت وسط حالة من التردد والتراخي واللاثقة والاستسلام غير المعلن لشروط وأوامر «اصلاح»(!) مفروضة فرضاً من الخارج. ولئن كان البعض منا ما زال يجهل حجم هذه الشروط والأوامر فما عليه الا مراجعة النسخة الدبلوماسية المهذبة منها كما وردت على لسان وزير الخارجية الأميركي الجنرال كولن باول في لقاء «المنتدى الاقتصادي العالمي» الذي عقد خلال الأسبوع الماضي في غور الأردن، ومراجعة ردات الفعل الرسمي الوديع من المشاركين العرب فيه. ولست أدري إن كان في الأمر مصادفة أم غير ذلك، ولكن أليس لافتاً ان يناقش المتداولون شؤون السلام الاقليمي في بلد عربي محاط من الشرق والغرب ببلدين شقيقين محتلين، وعلى تخومه الشمالية بلد «قيد المحاسبة» الأميركية؟

نعلم علم اليقين أننا في سنة انتخابات رئاسية أميركية. لقد حفظنا الدرس عن ظهر قلب. نحن أمام «مزاد علني» للحصول على الصوت التوراتي الليكودي، الا اننا نخطئ كثيراً اذا ما تصورنا ان هذا الصوت هو فقط يهودي. فكثرة من أقوى الأصوات المنادية داخل أميركا بالعدالة في الشرق الأوسط... يهودية.

صحيح أن «أيباك» (اللجنة الأميركية الاسرائيلية للشؤون العامة)، التي استجدى جورج بوش تصفيق اعضائها قبل أيام، هي أقوى «لوبيات» اسرائيل في الولايات المتحدة والأكبر نفوذاً في الانتخابات الأميركية من أي تكتل مطلبي. ونعرف جيداً ان النفوذ الاسرائيلي يسيطر على مفاصل حيوية في الحياة الأميركية اليومية. وان بعض صفوة «المحافظين الجدد» من اليهود «الليكوديين» الأميركيين.

نعرف هذا كله.

الا ان الغالبية العظمى من «الليكوديين» الذين كسب أصواتهم جورج بوش عام 2000 وسيكسبها هذا العام تتكون من الأصوليين المسيحيين، الأشد عداء للعرب والمسلمين ولأي شعب في العالم ليس مسيحياً ابيض البشرة.

بالأمس، شاهدت إحدى الأقنية الفضائية الأصولية المسيحية، وسمعت كيف تفسر لجمهورها ما يحصل في الأراضي الفلسطينية، قائلة انه لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني «فالذين يثورون في اراضي اسرائيل غرباء طارئون جاؤوا يطالبون بأرض اسرائيل من دول أخرى مجاورة ترفض الآن ان يعودوا اليها».

وشاهدت وسمعت مدى تحمس القناة لشراء أطباق «الساتلايت» ونشرها في العراق لتسهيل نقل «الحقيقة» و«الدين الصحيح» للشعب العراقي.

ان المؤثر الأكبر على تبعات ما يناقش في بودابست وما يبحث في تونس ...هو ما سيحدث في الولايات المتحدة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. والخيار واضح، فإما ان يكسب ايديولوجيو اليمين الليكودي (المسيحي ـ اليهودي) المعركة فتصعّد «حرب الحضارات» بلا هوادة.. أو يفضح أمرهم فيخسرون ويعود العالم الى حد أدنى من التعايش السلمي.