مالطة: اللقاء العربي الأمريكي .. حوار الحرب والمشروعية

TT

عندما قدمت لمالطة الأسبوع المنصرم للمشاركة في الحوار العربي الأمريكي الذي نظمه معهد القيم الأمريكية كانت بالذهن صورة مزدوجة معقدة للشخصية الأمريكية ولنموذج وثقافة هذا البلد الكبير الذي أضحى لاعبا محوريا داخل منظومتنا الإقليمية.

ولقد تشكلت عناصر الصورة منذ طفولتي، حين تعرفت على شخصيتين أمريكيتين في محيطي العائلي والدراسي: الراهبة المدرسة التي علمتني دروس الإنغليزية الأولى بالثانوية، والسفير المستعرب الذي كان ينقب عن المخطوطات القديمة في قريتنا الصغيرة التي موّل فيها أول شبكة توزيع مياه حديثة قبل أن يصبح أحد أركان الدبلوماسية الشرق أوسطية الأمريكية.

وفي الوقت الذي تعرفت على هاتين الشخصيتين المحببتين، كانت قراءاتي السياسية الأولى عن الموضوع الفلسطيني ومتابعاتي لتطوراته ولدور الولايات المتحدة في دعم الاحتلال الإسرائيلي ووقوفها ضد الحقوق العربية، فضلا عن معاداتها لحركات التحرر الوطنية، تكوّن في ذهني صورة منفرة قاتمة لدولة عدوانية متغطرسة تتحكم فيها اللوبيات الصهيونية المناوئة للعرب والمسلمين.

وحين بدأت قراءاتي تتعمق وتتنوع حول النموذج الأمريكي انتقلت الصورة المزدوجة إلى عقدة نظرية لا تزال مطروحة بحدة، قوامها: لماذا كان البلد الغربي الذي من المفروض أن يكون الأقرب إلى العالم العربي ـ من حيث ثقافته ونظامه الاجتماعي ومن حيث تجربة الاحتكاك التاريخي التي غاب عنها الصدام في العهد الاستعماري ـ بؤرة العداء والتوتر بين الفضائين العربي والغربي؟

ولقد تبيّن لي أن النموذج الأمريكي قابل للاحتذاء عربيا في عدة مناح جوهرية، لعل أبرزها سمتان جوهريتان، هما:

ـ نمط الحداثة المتصالحة مع مرجعية الدين وقيمه في مستوى تركيبة المجتمع المدني وفي مستوى العلاقة بالدولة، مما يشكل ظاهرة استثنائية بالمقارنة مع أوروبا.

ـ تجربة الوحدة الفيدرالية الأمريكية الناجحة المليئة بالعبر والدروس التي تحتاج إليها الأمة في نزوعها القومي الوحدوي المتعثر (الاندماج ضمن التنوع من خلال آليات الديمقراطية التعددية واللامركزية الإدارية المرنة).

صحيح ان تداعيات التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي أثرت سلبيا على العلاقات العربية الأمريكية منذ منتصف الستينات، بيد ان إحدى ثغرات إدارة العرب لصراعهم مع إسرائيل راجعة إلى ضحالة وهشاشة اطلاعهم على تركيبة وطبيعة النموذج الأمريكي في مقابل نجاح المؤسسة الصهيونية المطرد في اختراق مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة إلى حد التحكم النهائي كما هو دائر حاليًا.

ولعل لقاء مالطة كان أول خطوة نوعية في اتجاه رصد الصور النمطية السائدة المتبادلة لدى الجهتين. ولئن كانت هيمنت على الحوارات كما هو متوقع مستجدات الأحداث الراهنة وعلى الخصوص الموضوعان العراقي والفلسطيني، إلا أن النقاش امتد إلى جوهر وخلفيات المقاربات النظرية والاستراتيجية الأمريكية الجديدة وتأثيرها على المنطقة.

ولا بدّ من التنبيه هنا إلى طبيعة تركيبة الوفد الأمريكي المشارك الذي تشكل أساسًا من وجوه فكرية سياسية تنتمي للتيار المحافظ الداعم للرئيس بوش، في حين يمثل واحد من المجموعة الاتجاه المحافظ الجديد الماسك بمقاليد الأمر، وهو ميكائيل نوفاك مسؤول كرسي الدين والسياسات العامة في معهد «امريكان انتبرايز» في واشنطن ومندوب الولايات المتحدة السابق في لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وأحد الدبلوماسيين الأمريكيين المرموقين. وأغلب المشاركين من موقعي رسالة المثقفين الأمريكيين للعالم الإسلامي المتعلقة بالحرب على الإرهاب التي بثها معهد القيم الأمريكية في فبراير 2002، وكانت وقتها قد أثارت جدلا واسعًا في الإعلام العربي.

أما الوفد العربي فضم عددًا من الكتّاب والمفكرين العرب المستقلين، من خلفيات فكرية وإيديولوجية متنوعة، وإن جمعهم الإيمان بأهمية الحوار الصريح الهادف مع الوسط الثقافي الأمريكي، ونبذ التطرف والأصولية والانغلاق; والتمسك بثوابت الأمة وحقوقها.

وكان من الطبيعي أن تستأثر نظرية الحرب العادلة التي يدافع عنها المحافظون الأمريكيون التقليديون والجدد بصفتها الاستجابة الفاعلة لتحديات الإرهاب بالجانب الأوفر من مناقشات وحوارات اللقاء.

وقد قدم هذه النظرية بالتفصيل جيمس جونسون، أستاذ الأديان بجامعة نيوجرسي وصاحب عدة كتب عن الحرب العادلة، آخرها كتابه: «الحرب العادلة والجهاد: الرهانات التاريخية والنظرية للحرب والسلم بين التقاليد الغربية والإسلامية»، وجين اليشتاين أستاذة الأخلاق في جامعة شيكاغو ومؤلفة كتاب «الحرب العادلة ضد الإرهاب: عبء القوة الأمريكية في عالم عنيف». وقد اعتبرا أن هذه النظرية ذات الخلفية اللاهوتية البارزة تعود للقديس أوغسطين، وتقوم على أركان ثلاثة هي النظام والعدل والسلم، من منطلق أخلاقي مطلق هو الإيمان بعدالة استخدام العنف ورفض التقييدات والضوابط المؤسسية والشريعة التي لا تتلاءم مع هذا المنطلق أو تقيده. فهي إذن في حالة تعارض مع الفكرة المؤسسة للقانون الدولي المعاصر أي حصر مشروعية الحرب في الدفاع عن النفس ضمن آليات المؤسسات الدولية التي تصون وتحفظ مبدأ سيادة الدول.

ويرى الجانب الأمريكي أن بعث هذه النظرية من العصور الوسطى حتمته بعض المتغيرات النوعية الأخيرة التي أبطلت فكرة السيادة وقوضت منطق القانون الدولي القائم عليها، ويعني الأمر هنا ظاهرة الإرهاب في عصر العولمة التي أفرزت معادلة جديدة قوامها حيازة أطراف ومجموعات لا تتخذ شكل كيانات سياسية وطنية لأسلحة دمار شاملة.

ومن هنا تغير الرؤية الإستراتيجية الأمريكية من مبدأ الحرب القانونية المشروعة التي تحكمها التوازنات الجيوسياسية القائمة إلى مبدأ الحرب العادلة أي استخدام القوة لفرض النظام والعدالة ضمن منظور أخلاقي قيمي.

وكان من المفارقات المثيرة أنه في حين كان الجانب الأمريكي يدافع عن أطروحة لاهوتية وسيطة بلغة وعظية أخلاقية غريية، كان الجانب العربي ينافح عن مكاسب عصور التنوير والتحديث، ويستند للشرعية الدولية الجديدة، مبينا ما تؤدي إليه الصياغة الأخلاقية لاستراتيجية الحرب من نتائج وخيمة، آثارها بارزة في المعارك الأولى من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب في الساحتين الافغانية والعراقية.

ولقد بدت نقاط التشابه بادية بين خطابي الأصولية المسيحية والأصولية الإسلامية المقاتلة في نزوعيهما الجذري الطوبائي وحديثهما عن أخلاقية الخير والشر (الفسطاسان حسب عبارة بن لادن).

ومن الواضح أن نظرية الحرب العادلة تقوم على مصادرتين هشتين:

أولاهما، توهم أن الدول تحركها القيم والمعتقدات بدل المصالح والمنافع. وثانيتهما، توهم انطباق القيم الفردية على الحقل المدني والإستراتيجي الذي له ضوابطه وقيمه (وقد عبر ماكس فيبر عن هذه الثنائية بالتمييز بين أخلاقية الإقناع وأخلاقية المسؤولية).

فكل الحروب التي عرفها التاريخ، بما فيها أكثرها فظاعة ووحشية (مثل الحروب الدينية وحروب الاستعمار) اتخذت غطاء أخلاقيا، ولذا لا يكفي الاقتناع الذاتي بعدالة الحرب لمنحها المشروعية، ومن هنا فكرة وضع ضوابط مؤسسية وتشريعية لتنظيم الحرب والحد من مخاطرها. ولقد أثبتت هذه الفكرة نجاعتها في الساحة الأوروبية التي خرجت بفضلها من مناخ الحروب المدمرة، ومن ثم تم تمديدها إلى النظام الدولي عبر اتفاقات ومواثيق ملزمة ساهمت الولايات المتحدة بدور محوري في صياغتها قبل أن تتنكر لها في الفترة الأخيرة.

ولقد كان هذا الحوار النظري حول أطروحة الحرب العادلة حاسما في استكناه ومناقشة الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة التي سنخصص لها جملة ملاحظات في الأسبوع القادم.