حقيقة العقدة العرفاتية..!

TT

لم تنفع قبلات الرئيس ياسر عرفات على رأس الملك حسين يرحمه الله ولا على رأس وريثه الملك عبد الله الثاني أطال الله عمره. وها هو الملك الهاشمي الشاب ينفض بالشكل والمضمون، أو بالظاهر الذي يعكس الباطن، اليدين من الرئيس الفلسطيني ومن دون أن يلغي توضيح «مصدر في الديوان» ما سبق أن قاله سيد هذا الديوان عن عرفات، أو أن كلام الملك في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمس» لا يمكن لتوضيح «مصدر في الديوان» ان يمحوه.

وحيث أن التطورات في المنطقة وبالذات على الساحتين العراقية والفلسطينية تتلاحق بوتيرة سرعة اختراق الصوت ، وبحيث أن الذاكرة لا تستطيع اختزان هذا الكم الهائل من الوقائع الكلامية والإجرامية والعدوانية والفضائحية، فإن استعادة عبارة السيد الهاشمي الأول تبدو ضرورية لتفسير ما نقوله هنا في شأن قبلات الرأس التي طبعها على الجباه والرؤوس الهاشمية السيد الفلسطيني الأول على مدى سنوات الشقاء بعد التحدي متمثلاً في مأساة ما أُصطلح على تسميته «ايلول الأسود» عام 1970. ففي المقابلة الصحافية المشار إليها وردت عبارة منسوبة للملك عبد الله الثاني أفزعت رئيس «شعب الجبارِين» لأنه قرأ فيها بعض الترابط بين ما يدور على بساط البحث العربي ـ الأميركي، وتحديداً القول الصاعق لوزير الخارجية الأميركية كولن باول بعد محادثات في العمق مع الملك ومسؤولين عرب آخرين جرت قبل الإلغاء المطلوب أو فلنقل المرحَّب به من جانب الإدارة الأميركية للقمة العربية الدورية الرابعة في تونس، ثم بعد الإلغاء، ثم خلال فترة التشاور الغامضة المقاصد والنوايا لاستئناف التحضير للانعقاد، ثم قبل أن يتقرر الموعد يومي 22 و23 مايو (أيار) وفي تونس وليس خارجها، ثم قبل «المنتدى الاقتصادي الدولي» الذي استضافه الأردن وكان حضور جنرال الدبلوماسية الأميركية فيه طاغياً أو ساطعاً لكي لا يتم تفسير الصفة الأولى بأنها من طغيان وطغاة.. مع أن طبيعة واقع حال الممارسة الأميركية في قضايا العرب والمسلمين عموماً هي من طبيعة الأعمال الطغيانية.

الذي قاله كولن باول وفي ضوء «وعد بوش» توأم «وعد بلفور» هو «إن عرفات ـ هكذا من دون صفة مستر أو «بريزدانت» لياقة ـ إضطلع بدور سلبي وأن عليه أن يترك السلطة التي يمارسها على أجهزة الأمن إذا كان يريد تحقيق تقدم في اتجاه السلام في الشرق الأوسط...». والذي قاله الملك عبد الله الثاني للصحيفة الأميركية بعد ذلك وتعليقاً على كلام الوزير باول هو: «إن هناك مناقشات داخل السلطة الفلسطينية بأن يصبح عرفات رئيساً ويعطي المزيد من السلطات لرئيس الوزراء. فإذا كان ذلك من شأنه أن يسمح للفلسطينيين بتجاوز العائق الذي نشهده حالياً مع الولايات المتحدة وإسرائيل فيجب أن يوضحوا الأمر بسرعة...». إلى هنا يبدو الكلام الملكي الهاشمي موضع التفهم النسبي لدى الرئيس الفلسطيني، لكن الإضافة هي التي أفزعت أبو عمار حيث أن كلماتها التسع عشرة تثير الفزع في النفس. والكلمات هي: «أعتقد أن على عرفات أن يقف طويلاً أمام المرآة ليقرر ما إذا كان وجوده يخدم أم لا القضية الفلسطينية...».

الواضح من هذه العبارة أن الملك عبد الله يطالب عرفات بالتنحي الطوعي ، وبصرف النظر عما إذا كان القصد من «الوقوف طويلاً أمام المرآة» هو أن الوضع الصحي للرئيس الفلسطيني يحتم عليه الانصراف أو أن المرآة التي يقصدها الملك هي المشهد العربي ـ الدولي الذي يحتم عليه التأمل فيه والأخذ بخيار التضحية التي حتى إشعار آخر لا خيار غيرها ما دام القرار الدولي مقبوضاً عليه من الدولة الأعظم، الولايات المتحدة، وما دام الآخرون عرباً وعجماً وأجانب ينطبق عليهم قول الشاعر العربي «لا خيل عندي أُهديها ولا مال.... فليُسعف النُطق إن لم تُسعف الحال». وهذا ما يحدث فعلاً حيث ان المواقف اللفظية من نوع «نستنكر» و«نشجب» و«عدوان ضد الإنسانية» و«أمر لا يمكن السكوت عليه» هي بالمئات يتم بثها أرضياً وفضائياً وعبر وسائل الإعلام على أنواعها، ويلتقي في هذا النوع من المواقف العربي مع التركي مع الإيراني مع الروسي مع الأوروبي.. وإن كان هناك اختلاف في المفردات التي تفرضها سياسة المكايدة بين الحين والآخر ، ومن نوع أحدث المكايدات بين رئيس القمة العربية الثالثة المتوارية ورئيس القمة العربية التي تحل محلها. وهذا الموقف اللافت لنا الصادم للرئيس عرفات وللعرفاتيين عموماً الذين يرتضون زعامة سيدهم حتى إذا كان وضعه الصحي يفرض عليه التمدد على الفراش، والذي ارتأى الديوان الهاشمي تخفيف وطأة صدمته وبعدما كان الذي قيل قد قيل وقُضي الأمر، من خلال توضيح جاء فيه «إن الملك قال إن على عرفات أن يفكر في موقفه من السلام وما إذا كان هذا الموقف يخدم القضية الفلسطينية ولم يقل ما إذا كان وجوده يخدم القضية الفلسطينية أم لا»... إن هذا الموقف اللافت الصادم يشكل مدخلاً من جانب كاتب مثل حالي ليس فقط للتذكير بالقبلات العرفاتية التي طالما كان أبو عمار طبَعَها ومن قبل أن تنتهي الحال به «أسير العصر» أو أول رئيس شرعي مُعتقل بإرادة بوشية ـ شارونية وعجز عربي ـ دولي عن مواجهة هذه الإرادة، على الجبين الهاشمي، جبين الأب قبل أن يرحل وجبين الإبن بعد أن تسلَّم المُلك، وإنما لاستحضار العقدة العرفاتية التي أبلغني فحواها الرئيس الفلسطيني كصديق وكنصير بالقلم للقضية، من خلال رسول له. وهذه الفحوى التي أُشير اليها وأكاد أقول إنها شبه نص شفهي لما وصلني أو تم إبلاغي به هو الآتي: إن القادة العرب يريدون مني ما تريده الإدارة الأميركية منهم وهو أن أُعلن شخصياً أمرين. إلغاء مبدأ حق العودة أو تذويبه في صيغة يتم التفاهم على تنميق مفرداتها واعتبار القدس مسألة شكلية أو تذويب المطالبة بأن تكون هي عاصمة الدولة الفلسطينية في صيغة يتم أيضاً تنميق مفرداتها. ومقابل ذلك تقوم دولة ويبدأ ضخ المساعدات الدولية لها. وما يريده القادة العرب وقادة بعض الدول الإسلامية وأيضاً قادة معظم دول العالم الأجنبي مني هو أن أكون المبادر إلى إعلان ذلك لكي يكونوا براء من هذه الخطوة وبالذات مما يتعلق بمصير القدس وذلك لأن الشق الفلسطيني، أي حق العودة، لا يؤرِّق أحداً منهم. وهؤلاء القادة عندما يفعلون ذلك وتراهم لا يقطعون شعرة معاوية وفي الوقت نفسه ليسوا على ما هو المأمول فيهم من شعب الجبارِين، يتوقعون مني الخطوة التي أُشير إليها لكي يقولوا إنهم كما الحال منذ خمس عشرة سنة من القمم العربية والإسلامية يؤيدون ما يقرره الفلسطينيون. أما ردي على ذلك فهو انهم إذا كانوا لا خيار لهم سوى هذا القرار فإنني أطلب منهم تفويضاً بذلك وبحيث يصدر عن القمتين العربية والإسلامية قراراً في هذا الشأن وأنا في ضوء ذلك أعلن أمام شعب فلسطين خيار الأمتين من خلال القمتين اللتين أصدرتا هذا التفويض ورفعتا عن الكاهل العربي وتوأمه الكاهل الإسلامي هذه المسؤولية. أما أن يقال إن الفلسطينيين هم الذين أرادوا التخلي عن حقوقهم ومقدساتهم وأنهم ما داموا فعلوا ذلك فلماذا يجب أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، فهذا ما لن أفعله...».

في ضوء هذه الرغبة الدفينة المطلوبة من عرفات كانت مبادرة الرئيس بوش وكان وعده بأن تقوم تبعاً لذلك دولة فلسطينية في العام 2005. وعندما لم يتجاوب عرفات بدأت الجفوة منه وجرى حبسه في مقاطعته وبدأ العنف الشاروني يتزايد وتتلازم معه المغفرة البوشية لهذا العنف واعتباره حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس، كذلك بدأ التركيز على ضرورة أن يكون هنالك رئيس حكومة فكان محمود عباس الذي لم يستطع ولن يستطع مِنْ بعده أحمد قريع تنفيذ الرغبة المطلوبة. ويحاول الشارونيون إنجاز الأمر قبل أن تغرب شمس الشارونية ومن هنا جاء «وعد بوش» وسبقه التركيز على هز هيبة عرفات ودمغ عهده وزمنه ورئاسته وسلطته وسُهاه (أي زوجته) بالفساد المالي. ومع ذلك استمر واقفاً على قدميه مردداً إنه الجبل الذي لا تهزه الريح وكثير التفاؤل بأن الله سبحانه وتعالى سيُفرِّج الغم والهم عن الفلسطينيين من النهر إلى البحر ومن أعالي الجليل إلى شواطئ غزة جزاء صبرهم وتضحياتهم، مطمئناً في الوقت نفسه إلى أنه شخصياً لن يلبي المطلب الأميركي ـ الأميركي ـ الإسلامي ـ الدولي وأن قادة الأمتين لن يتجاوزوا سقف رؤية ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي انتهت مبادرة عربية بالإجماع.. أي بما معناه لن تجرؤ قمة عربية أو إسلامية على تفويضه بالتفريط. وهو بعد هذا العمر وهذا الوضع الصحي يفضل الإنصراف من الدنيا مرتاح البال والضمير حتى إذا هم قرروا بعد الحكم الباطل في حق البطل مروان البرغوتي إدانته والحكم عليه هو الآخر بالسجن المؤبد مرة أو بضع مرات.

تلك هي بعض المشاعر على هامش ما نقله رسول أبو عمار وأسجله بقدر استيعابي لما سمعتُ رابطاً الأمور والتصريحات ببعضها... وبالذات كلام الملك عبد الله الثاني الداعي رئيس فلسطين إلى النظر في المرآة بعد كلام كولن باول الذي دعا عرفات إلى سرعة الانصراف، من دون أن يأخذ هذا الجنرال في الاعتبار أن العهد البوشي بكامل رموزه قد يتوارى في الخريف المقبل ويبقى عرفات وعقدته قائمة وتتواصل مواكب تشييع شهداء العدوان الصهيوني في انتظار انبعاث سيف عربي ـ إسلامي قاطع يحسم الأمر... أو موقف أميركي ـ دولي يصحح الخطأ والخطيئة.