حريق بيروت

TT

يقول مثل عامي لبناني: «لماذا تنفَّخ على اللبن؟ لأنني اكتويت بالحليب»! اي حادث امني كبير يمكن ان يبدو مشهداً من الحرب. او تذكيراً بها. او نذيراً. او سبباً لخوف يتعدى الخوف الصغير الى الخوف الكبير. ولذلك خاف لبنان خوفاً شديداً من احداث الدماء في ضاحية بيروت الجنوبية يوم الخميس. كلام حق اريد به باطل. تظاهرات ضد الازمة الاقتصادية الخانقة والضرائب الفاحشة والاداء الحكومي المتردي، تتحول فجأة الى هجوم على الجيش وحرائق في الوزارات وقطع لطريق المطار وحرائق كاوتشوك على الطرقات الاخرى.

اسوأ ما في الحرائق انها على طريق المطار وعلى باب الصيف. وهذه السنة كان اللبنانيون يتوقعون فيضاً من السياح والخليجيين يخففون عنهم شيئاً من العبء الاقتصادي المتزايد. لذلك ذهلوا امام مشهد الحرائق. وارتعدوا امام مشهد القناصين على السطوح. وتساءلوا كيف يمكن لتظاهرة سلمية «عفوية» ان تكون قد اعدت كل هذه الكميات من الحجارة لرشق الجيش بها، وكل هذه الدواليب لاحراقها، وكل هؤلاء القناصين لنشرهم على السطوح.

واذ يتأمل المرء في صور المتظاهرين يرى انهم من عمر واحد تقريباً ونوعية ثياب متقاربة جداً وحتى ذوو تسريحات شبابية متشابهة ايضاً.

غطت غيوم الحرائق على المطالب الانسانية التي كانت شعار الاضراب العمالي في البداية. فقد بلغ الغلاء مبلغاً مقيتاً فيما لا يزال الحد الادنى للاجور نحو 200 دولار. وزيدت الرسوم على كل شيء وفرضت ضريبة اضافية على معظم الاشياء. وانهارت مؤسسة الزراعة والصناعة في بلد يبلغ عدد وزرائه 30 وزيراً نصفهم بلا حقائب سوى الحقائب التي يحملون فيها راتبهم الشهري. وعدد كبير منهم بلا مكاتب. لكنهم جميعاً يمتعون النفس بارقام سيارات حكومية واسفار غير ضرورية ومصاريف تشبه مصاريف الدول الافريقية.

وكان مجلس الوزراء ينعقد اسبوعياً فاصبح يعقد كلما تيسر. ويخرج عادة بقرارات شبه مضحكة حول مواضيع يمكن البت فيها عند اي رئيس دائرة. وتضم الحكومة عدداً من اكثر اللبنانيين غنى وثراء، في الوقت الذي يتدهور المستوى المعيشي ويتوقف النمو الاقتصادي. واحد اسباب الوقف في النمو الصراع السياسي المعلن بين اركان الدولة. وهو صراع على المواقع وليس تنافساً على الاداء. وفي هذا الصراع لم تطرح في اي مرة المسألة الاجتماعية ووضع الناس المزري والفساد المريع في الدوائر والضرائب غير المباشرة التي يرغم المواطن على دفعها من دون ان يكون في استطاعته رفع الشكوى الى احد.

غير ان كل هذا الوضع الباعث على اليأس يظل افضل من اي مشهد مسلح او حرائق في الطرقات او قنص على السطوح. فالذي يريد خير الناس حقاً وتحسين معيشتهم لا يقدم على احراق استقرارهم وسمعتهم وتصدير هذه الصورة الى الخارج، وخاصة الى العالم العربي، الذي هو الملاذ الاقتصادي الاخير. فالقادمون من الخليج اخذوا يحركون من جديد دخلاً اساسياً كان قد غاب منذ زمن طويل. وهؤلاء تركوا اميركا لاسبابها واوروبا لغلائها وبدأوا يتجهون نحو مدينة ماهرة في تدليل ضيوفها. ولذلك نأمل ان تكون حرائق الخميس حادثاً معزولاً. بل ان تكون كما قالت «النهار» حادثاً «مدبراً»، يقوم على حصره من قام بتدبيره.