التطرف: قلب عدو ووجه صديق!

TT

بعد بضع سنوات من الآن لن يتبقى في ذاكرة أهل «الراكة» و «المحيا» و «الوشم» من أعمال العنف التي شهدتها مدنهم وأحيائهم الوادعة سوى حكايات المجالس، وأحاديث الساهرين، ولن يبقى لها من أثر يتجاوز الخبرات التي تصقل الشعوب وتكشف معدنها الأصيل. فالتجارب المريرة التي تمر بها المجتمعات في طريقها إلى النهوض لا تزيدها إلا صلابة وتماسكاً، ولا تكسبها إلا قوة ومناعة ذاتية، والمجتمعات الصحية كالأبدان التي عندما يخترقها «فايروس» تستنفر قوتها الداخلية وتتكون فيها المضادات لتقضي عليها، وكما تعاني الأجسام وتصاب بالحمى حتى تقضي على الجسم الغريب، تعاني المجتمعات من ازدياد الحوادث والصعاب حتى تستقر الأمور وتعود الأشياء إلى طبيعتها، ولا شك في أن أعمال العنف التي تشهدها المملكة هي حمى طرد تلك الفايروسات القاتلة قبل التعافي الكلي.

أفراد المجموعات التي توصف بـ«الضالة» هم من محترفي القتل وهم شياطين مقنعة، لا يرضيها سوى القتل وإراقة الدماء. وفي عرف المتخصصين في علم الإجرام فإنه من النادر أن يترك محترفو القتل مهنتهم، فسرعان ما تستولي عليهم ويصبح الشفاء منها أمراً غاية في الصعوبة لأنهم يتحولون إلى كائنات مبرمجة لا ترتاح إلا إذا مارست القتل وإراقة الدماء. والثقافة الإسلامية تؤكد على هذا المعنى «من قَتَل نَفسًا بِغير نَفسٍ أو فَسادٍ في الأَرضِ فكَأَنّما قَتَل الناس جميعًا ومن أَحياها فَكَأَنّما أَحيا الناس جميعًا». ومثلهم كمثل من يسمون بالـ«serial killers» في المجتمعات الغربية، فقد هانت عليهم النفس التي حرم اللة قتلها بغير حق واستباحوا الدماء المعصومة، فإزهاق روح واحدة كإزهاق مئات أو آلاف.

ولكون القتل هو مهنتهم التي مارسوها في كابول والشيشان ولم يعودوا يتقنوا سواها، فهم دائمو البحث عن أهداف جديدة، ومنذ أن فرغوا من القتل لحساب أمريكا في أفغانستان وهم يحاولون أن يوسعوا «البزنس» ويعملوا لحسابهم الخاص، لا فرق لديهم بين الرياض أو عمان أو الفلوجة أو القاهرة أو مدريد أو دار السلام! هي القصة القديمة ذاتها، اختلاف على الأجر ثم انفصال وعمل للحساب الخاص ومحاربة «الأعمام» السابقين، لم تدفع أمريكا ثمناً سياسيا مناسباً لهؤلاء القتلة فانقلب الأجراء عليها كما يحدث كل يوم.

أمريكا «عمتهم»، كما نقول في الخليج، تبدو مصممة على سحقهم، وهي اليوم تحقق نجاحاً في هدفها الأول فقد نجحت في أخذ معركتها معهم بعيداً عن حدودها وحمت أرواح مواطنيها المدنيين، ثم وضعت لهم قطعة الجبن الكبيرة في العراق وها هم يتقاطرون عليها من كل مكان فتصطادهم هناك واحداً تلو الآخر، ثم سينتهي الموضوع.

الأثر الذي سوف يبقى هو الجرح العميق الذي أصاب مجتمعاتنا تلك البسيطة، التي تفهم دينها كما هو دون غلو أو تفريط، وصدمتها المريعة باكتشاف تلك الحقائق المؤلمة أن من أبنائها من لبس ثياب الدين ليطعن في الظهر، ويلبس قناع الصديق وهو يخفي قلب العدو ، تلك المجتمعات التي اعتادت أن تضفي هالة من الاحترام والتبجيل لكل من يتحدث باسم الدين، سوف يكون ما يحدث تحولاً كبيراً في وعيها العام وعقلها الجمعي وسوف يكون لاهتزاز الثقة ببعض المنتسبين لرجال الدين والمدارس الدينية التقليدية تداعيات مقبلة ينبغي التعامل معها بمرونة وحكمة في ذات الوقت.

إن الانتقال من مرحلة استخدام الدين للحصول على مناصب سياسية وتبرير العنف، إلى مرحلة التعامل مع الدين كأحد المكونات الثقافية في شخصية الإنسان دون بغي أو عدوان على الدين واستخدامه كمطية لتحقيق مآرب سياسية يقتضي وعياً وإدراكاً وتحولاً هادئاً وتدريجياً، حتى ننتهي من استخدام الدين كـ«حصان طروادة» وحتى يمكن التخلص من تلك النماذج التي تقدم مشروعاً للفوضى وجهه الأعلى فقط مشروع دولة إسلامية ووجهه الأدنى مشروع للقفز إلى السلطة عبر طريق مرصوف بجثث الأبرياء!

من المؤسف أن المجموعات التي تؤمن بحتمية التعايش السلمي وحوار الحضارات والثقافات والأديان وبالحكومات التعددية المعتدلة وبسيادة دولة القانون وحماية حقوق الأقليات، تجد نفسها في أحيان كثيرة عرضة للإرهاب الفكري الذي يبدأ بالوصم وينتهي بالتحريض والاستهداف، وسيكون هدراً فادحاً أن لا يتم توظيف إمكاناتها للحد من الأفكار المتطرفة وتطويق العنف.

وهناك مشكلة المجموعات اللامبالية والكسولة والتي لن تحرك ساكناً قبل أن يصيب الحريق أطراف ثوبها وما لم تدفع ثمن تلك اللامبالاة والصمت.

تلك المجموعات ينبغي أن تخضع لبرامج توعية مكثفة، لكونها شريحة «رخوة» من المجتمع يمكن للمتطرفين التسلل من خلالها، فهي لا يمكنها إدراك أبعاد مشكلة التطرف في المجتمعات العربية وهي ما تزال مخدرة وغائبة عن الوعي ولا يمكنها أن تميز بين التيارات المتدينة الحقيقية وتلك التيارات التي تتخذ من الدين مطية لخداع ضعاف العقول وتحقيق مشروعها للاستيلاء على الدولة وإخضاع المجتمعات بالقهر والقوة.

أما الحكومات فقد باتت ملزمة بإدراك أهمية إعطاء الفرصة لحركة مجتمعية تحاصر الفكر المتطرف، وأن تشرك المجتمع في المعركة ضد الإرهاب، فالإرهاب رغم كل مساوئه، إلا إنه عندما يضرب داخل المجتمع ويهدد استقرار الناس وأمنهم فإنه يدفع المجتمع للتكاتف والتلاحم لمجابهة هذا الخطر، ولا بد أن تستفيد الحكومات من هذا القانون الطبيعي ومن إنجاح هذا التحرك عبر فتح مزيد من الأقنية التي تتيح للمجتمع التعبير عن رؤاه وعن رفضه للإرهاب ورفضه لمشروع الفوضى وتدمير الذات، عن التفافه حول ثوابته التي تضمن له الاستقرار والأمان، وبالتالي ينبغي إعطاء هامش أكبر لحركة المجتمع الأهلي فهو صاحب المصلحة القصوى في تطويق دوائر التشدد والقضاء على الفكر المتطرف وعلى تجار الموت. ومن الضروري أن يتزامن مع هذا التحرك الواسع إطلاق حملات إعلامية شاملة وحزمة متكاملة ومترابطة من البرامج والأنشطة والحملات والفعاليات الإعلامية والثقافية التي تتفاعل مع المجتمع وتحوله من متفرج إلى شريك وليتحمل المجتمع شطراً من المسؤولية في الحرب على الإرهاب، من الضروري إشراك الأسرة والمرأة على وجه الخصوص باعتبارها ذات التأثير الأكبر في تشكيل وصياغة العقول الشابة، مثل تلك البرامج القائمة على أسس حديثة ومدروسة سوف تسهم إلى جانب ما تعكف دول المنطقة الآن عليه في مجال التعليم والأمن إضافة إلى الإجراءات لتطوير البنى الاقتصادية والسياسية سوف تسرع في القضاء على الإرهاب وفكر التطرف وإجهاض مشروعه العدمي، وهو ما سيكون كفيلاً بعدم تكرار إزعاج أهالي مدننا الوادعة.

* كاتبة كويتية