التفتيش عن الصورة في واشنطن

TT

استكمالا للحديث عن الدعوة التي تلقيتها للمساهمة كَزميلٍ زائرٍ، لمدة شهر، في معهد واشنطن، هذا المعهد، الذي يتولّى رئاسته الديبلوماسي الأميركي الشهير دينس روس، ويعاونه بشكل رئيسي ديفيد ماكوفسكي، وقد مضى الحديث عن شطر من النقاشات التي خضتها.

إن الطريقة التي يجري تقديم الوضع الفلسطيني فيها هي طريقة مضللة، تقود إلى الدخول في دائرة مفرغة. جريٌ على مسار دائري، ينتهي إلى نقطة البدايات بعد أن يكون هذا الجري، قد التهم في طريقه أرواحاً بشرية، ودماراً لا حدود له. إن على الفلسطينيين أن يؤدوا ما عليهم في خطة خارطة الطريق وهذا منطق عادل وموضوعي، إذ أن الشراكة السياسية ليست مجرد كونك طرفاً شرعياً، تمثل قانونياً من يتعيّن عليك أن تضع توقيعك على الاتفاقات باسمه، فهذا جزء من الشراكة وليس كلّها.. لأنّ الجزء الأهم، أن تثبت جدارتك بالشراكة من خلال السلوك والقدرة على تنفيذ الالتزامات. هذا ما يؤخذ على الفلسطينيين، أنهم وهم يطرحون هذا المنطق، يظهرون كما لو أنهم يمسكون باليد الفلسطينية الموجوعة، يضغطون عليها بمنطقيّة عالية ولكنّها في الحقيقة مصدر ألم دائم للجميع. إن الفلسطينيين، لا ينكرون تقصيرهم في تنفيذ ما عليهم من التزامات، ولكنّهم ينشدون مناخاً سياسياً مشجّعاً على المضي قدماً، ومع ضعف المنطق الفلسطيني أمام قوة قدرات الطرف الآخر على الضغط، إلا أنني حين كنت أواجه هذه النقطة بالذات، لا أجد ما أفسر فيه الوضع سوى الإشارة إلى تجربة أبو مازن، وكيف انه حاول بشكل جدّي الوفاء بالالتزامات، وكيف أنّه قدّم مبادرة العقبة التي نظر إليها فلسطينياً على أنّها أفدح تنازل سياسي قُدّم دون استجابة إسرائيلية. كنت أجد من يقول: إنّ الذي قوّض تجربة أبو مازن هم الفلسطينيون أساساً من خلال تحفّظ عرفات على مبدأ أن يكون عندكم رئيس وزراء. لم يكن من السهل عليّ، فرز الألوان المتداخلة في هذا الأمر إلا أنني كنت ـ وفي هذه النقطة بالذات ـ أشير إلى نجاحات حكومة أبو مازن بالإجمال في التهدئة، وإخفاق شارون في الإفادة من الفرص، أما موضوع أبو عمار فقد كنت أفسّره وفق قواعد اللعبة الفلسطينية وهي قواعد مهما أسعفتنا البلاغة اللغوية في تقديمها.. إلا أنها تظلّ عصيّةً على الفهم بالنسبة لمعظم الفلسطينيين قبل أن أقول.. وكل الآخرين كذلك. وفي هذا الشأن، ومع أن حواراتي في واشنطن لم تترك شاردةً أو واردةً.. وسأنشر كثيراً منها في مناسباتٍ لاحقة.. كنت في نهاية زيارتي الطويلة، قد وصلت إلى دورة العنف الجديدة التي لا تزال تحصد بمناجلها الحادّة أرواح إسرائيليين وفلسطينيين.. مستوطنين وجنود احتلال.. ومقاومين وأبرياء، دورة تعمل فيها الآلة العسكرية الإسرائيلية العملاقة بلا هوادة في رفح كذروة القسوة.. وفي كل مكان من الضفة والقطاع بوتائر أقل.. ذلك أن الانتباه يذهب عادةً إلى مصدر الألم الرئيسي، أما الآلام الأخرى، على قسوتها، فتصبح مع الزمن مجرد روتين مأساوي تتجاهله حتى العديد من وسائل الإعلام. إنها دورة دمار وإراقة دماء غير مسبوقة، رافقتها حركة سياسية روتينية ـ وفق ما هو متاح ـ عناوينها، لقاءات رئيس الوزراء الفلسطيني مع كولن باول وكوندوليزا رايس إلى جانب لقاءات أخرى مع أطراف متعددة. كنا قد تناقشنا في مغزى اللقاءات الأميركية الفلسطينية مشيرين ـ بشكل جماعي ـ إلى أن استئناف الحوار الأميركي الفلسطيني أمر ضروري من حيث المبدأ، واتفقنا على أهمية أن يتقدّم الجانب الفلسطيني، بخططه المحددة كي لا يظل شارون يسبح وحده في الفراغ، فيتحوّل مع الزمن إلى سيّد اللعبة بلا منازع، كان مفيداً أن يعرف الأميركيون، حدود القدرة عند الفلسطينيين، قبل معرفتهم للواجبات، فالواجبات أصبحت محفوظةً عن ظهر قلب، أمّا القدرات فيجري حولها جدل طويل، وهنا يظهر في الصورة «إشكال ياسر عرفات» الذي يبدو غير منطقي حين يجري الحديث عن الإمكانيات.

إن الرواية الإسرائيلية، حول عرفات، تتلخّص في أنّه هو وحده الممسك بخيوط اللعبة، وهو وحده القادر على إثارة المشاكل، والتوقّف عن ذلك متى أراد.. وهو ربما من له صلة بسقوط مبادرة شارون في تصويت الليكود.عرفات والحالة هذه.. سيكون مفيداً حتماً في الحل بفعل الإمكانيّات المعترف بها من قبل الإسرائيليين أولاً. إذن ما العمل؟ من يملك القدرة قيد الاعتقال ومن لا يملك القدرة مطلوب منه تحقيق معجزة! هذه الإشكاليّة، لم تتوقف عند كونها نوعاً من العقاب، وإنّما وصلت بتأثيرها إلى حد إرباك الجميع، وجعل الجهود الفعّالة تتسرّب من الحلقة ذاتها.. ولا تصل إلى النتائج المرجوّة. كانت حوارات طويلة حول هذا الأمر، وهي من النوع الذي لا يفضي إلى اتفاق.. غير أنّ ما حدث عبر لقاءات قريع مع الأميركيين. ربما يحمل بعض الليونة في كثير من الأمور التي كانت تبدو متشددة للغاية، ولكن دون إلغاء المضمون الجوهري لهذه اللقاءات.. وهو وضع الفلسطينيين من جديد، وربما بلغة أكثر هدوءاً أمام الاختبار إيّاه.. نريد أن نرى أفعالاً على الأرض وليس مجرد خطط على الورق! وإلى أن ترى هذه الأفعال تواصل طاحونة العنف دورانها، بما ينذر بإحالة كل اللقاءات إلى أرشيف ضخم، عنوانه «آلاف الساعات مع عدد من الإدارات.. في حوارات ومفاوضات.. بلا إنجازات». خلاصة القول، في هذا الشأن: إنّ ما تسعى إليه الإدارة الأميركية حالياً هو التهدئة، وقف النار، وخلق أجواء تسهّل الانتقال إلى خطوات ذات مضمون سياسي. وبمنطق القدرات قبل الواجبات جرى حديث حول الهدنة، وبصرف النظر عن اختلاف التقويم في نجاح هدنة أبو مازن أو فشلها، إلا أنّ الخلاصات الواقعيّة تقول: في زمن الهدنة كان الدم المسفوك أقل وفي زمن تدمير الهدنة صار أكثر وفي حالات عديدة، وعندما تتعقد الأمور كثيراً، يجدر بنا أن نلوذ إلى أفضل ما حدث خلال تجاربنا، وأفضل ما يمكن أن يحدث استناداً إلى تجربتنا، أن ننجح في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، وبديهي أن يكون متبادلاً. وفي ظل ذلك، يكون التفتيش عن مداخل لحلول أوسع وأكثر عملية، أمراً فيه قدر من الموضوعية، دون أن يضمن أحد أي شيء لأي وقت.

* وزير الإعلام الفلسطيني السابق