الفراهيدي وشاعرات النثر

TT

تهيأت لا بلبل حقائق واعية ولا واعية

وأحذف شرائح عميقة وخاوية وثوابت

أعمدة وغير أعمدة.. وخلتني أنسى نهرا

وما آل اليه وعشبا وما آل اليه وأعوام، أعوام

سلالتي الباقية لكني ما فتئت أذكرني

وبكيت.. بكيت.. وشخت من البكاء

النص من مجموعة الشاعرة السورية مياسة دع «العتبة الخالية» ومياسة حلبية من بلد ـ قدك المياس يا عمري ـ وهي زوجة للناقد والكاتب السوري محمد جمال باروت وهذه الخلفية العائلية ضرورية لفهم التأثير الافتراضي لمنزل العتبة العامرة فقد أصدر باروت في شبابه كتاب «الشعر يكتب أسمه» الذي كان دفاعا مجيدا وحيويا عن قصيدة النثر العربية الجديدة التي كانت محظوظة بنقادها أكثر من شعرائها فغير محمد الماغوط ـ وتقريبا أنسي الحاج ـ بالكاد يذكر الناس اسما آخر من رواد تلك القصيدة.

أما بالنسبة للشاعرات فلا يذكر قراء الشعر واحدة ـ الا ان كانت هدى النعماني او ليلى مقدسي ـ لأن الجيل النسوي التالي للماغوط هو الذي ترك البصمة الاوضح في الشعر النسوي النثري المعاصر وخصوصا عند المصرية فاطمة قنديل والسورية لينا الطيبي والمغربية وفاء العمراني التي نوعت كمعظم الشعراء والشاعرات في هذه الحقب القلقة بين التفعيلي والمنثور.

مع مياسة دع في «العتبة الخالية» وهو عنوان يذكر بأغنية فيروز:

ما في حدا لا تندهي ما في حدا....

بيتن مسكر والعشب غطى الدراج

شو قولكن شو قولكن صاروا صدى

أقول مع هذه المجموعة تتجدد أشكاليات قصيدة النثر الدائمة والتي لم تجد هذه الحقب لها حلا فشعراء وشاعرات هذا النوع الادبي يدركن ويدركون مع المقدرة التصويرية ان العمق الوجودي والفلسفي ضروري للشعر وان التحديق في وجه الابدية العاري هو دور الفنان الأصيل لكنهن ولكنهم لم يتوصلوا حتى الآن الى تكوين بنية ايقاعية متماسكة ومحسوسة فكل ما قيل عن الإيقاع الداخلي ما يزال في طور التجريب والتنظير الغريب فلم يجد كل ذلك التنظير حتى الآن ناقدا متمكنا يلم أطرافه وينظمها وينقلها من الحالة الكودية التي لا يعرفها ويتقنها غير الشعراء والشاعرات الى الحالة المفهومة والملموسة فيكون ذلك الناقد لقصيدة النثر بمثابة الفراهيدي للقصيدة الموزونة المقفاة.

هناك ألفاظ موحية وأخرى فقدت روحها وهناك علاقة بين الحروف الصائتة والصامتة وهناك روابط بين الكلمة وما يتبعها ويسبقها ويجاورها والشاعرة المتمكنة هي التي تعرف ذلك بالخبرة والمران الطويل والذوق الفني ومياسة دع من هذا النوع الذي أفاده وجوده في بيت متعصب لقصيدة النثر وقد فعلت حسنا أنها لم تكتب على غلاف المجموعة نوعيتها فالذين يطلقون على هذا النوع من النصوص شعرا ما زالوا يتعرضون للسخرية وكلمة نص لم تحل المشكلة فهي عامة الى درجة الابتذال المهين فحتى المادة المكتوبة للاعلان التجاري تقع تحت هذا التصنيف النصي.

وقد حاول الروائي ادوار الخراط المتعصب ايضا لهذا النوع من الكتابات ان يحل المشكلة في كتابه «الكتابة عبر النوعية» لكنه زادها تعقيدا ولم يتوصل الى أجوبة مقنعة ولا مرضية وسيمضي وقت طويل قبل ان يولد الفراهيدي الجديد الذي يلملم ايقاعات قصيدة النثر وأشلائها المبعثرة وكلما تأخر ظهور شعراء كبار كالماغوط كلما تأخر ظهور ذلك الفراهيدي وهذه مسألة طبيعية في التطور الفني فقد كتب العرب الشعر لمدة قرنين قبل ان تنبغ بين ظهرانيهم العبقرية الفراهيدية التي ساعدتهم على السباحة المتقنة في بحور الشعر.