الشدَّة، يا هدى! المدة، يا رلى!

TT

كلمة «الصبايا» في مكتب الجريدة في بيروت تعني العزيزات عاملات الطباعة: هدى ورلى ورلى الاخرى. وعندما اصحح مسودة الزاوية بعد صفها، اطلب التحدث الى «الصبايا» فيعرف «حسام» من هي الصبية التي جمعت المقال ذلك النهار. واعرف انا من نوعية الاخطاء الطباعية من هي «الصبية» المناوبة. ومنذ سنوات وانا احاول اقناع «هدى» بأن الشدَّة ليست ترفاً في اللغة ولا هي لزوم ما لا يلزم. بالعكس، هي حكم التشديد. واحاول ان اقنع رلى بأن المدة لازمة ضرورية وإلا تغير المعنى. اما رلى الاخرى فاحياناً الفت انتباهها الى ان النون في «ان» حرف لا غنى عنه. من حيث المبدأ على الاقل.

الاجيال الجديدة تحاول تبسيط اللغة بالقفز فوقها. وتعتقد ان التحريك او التنوين او استخدام الاشارات الخارجة عن الحروف، هي مجرد عادة قديمة، فيما هي جزء اساسي من معاني اللغة. والشكل في اللغة جوهر وبناء وليس نقشاً. وكان عبد القاهر الجرجاني يربط جمالية النظم بالشكل لا بالمضمون. وكذلك يقول «مالارميه» ان الشعر يصنع من الالفاظ لا من الافكار. والتحريك، او التفصيل اللغوي، هو ايضاً جزء من الايقاع في نغم اللغة واستخدام الحروف، التي قسمها الالسنيون في كل اللغات، الى ما نسميه في العربية الشمسية والقمرية.

اللغة كينونة شديدة التعقيد. وهي مثل الكمال، لا تكتمل لأحد. لذلك طالب المتصوفون في الماضي والسورياليون في الغرب بالخروج منها او بالخروج عليها، لأنها غير قادرة على التعبير عن المكنونات ومضامين الوجدان. الا ان المحدودية هي في النفس لا في اللغة. وغالباً ما يتسامى التعبير على حدود الذكاء والطاقة البشرية. انها اداة تشغيل الحواس وملامستها في اعماقها. ولا تكتمل لنا متعة او فرح او مسرة، ما لم نمثلها في كلمة او تعبير. ولذلك نجد نفوسنا وقضايانا ومشاعرنا في تعابير الغير وكأنها محاكاة لما يدور في عمق اعماقنا. ولذلك تمنحنا الكلمة العزف الوتري الذي تشاء، فرحاً او حزناً او طرباً. انها الحارس الوحيد للمنقضي من حياتنا والمستعاد. وهي وقود الوجد. وبها وحدها يستديم الحوار في ذواتنا مع النفس ومع الآخرين. مع الماضي والحاضر والآتي.

اتساءل احياناً ان كنت اعيش من اجل اللغة ام اعيش فيها ام اعيش منها. وينتابني شعور طفولي بالزعل عندما اشعر ان احداً قد اسقط شيئاً منها، ولو بغير عمد. وفي كل مرة تهمل «هدى» عملية الادغام في الشدة، اعاتبها، ولا اترك المسألة تمرّ. ومن اجل ان اضمن حقوقي ارسلت اليها بيتاً من الشعر لابن عربي تضعه على زجاج الكومبيوتر:

اذا ما التقينا للوداع حسبتنا

لدى الضم والتعنيق حرفاً مشدداً