قطـع الطـريق ومغامرة الديموقراطية !

TT

كل الأحداث والأخبار والتصريحات الواردة من هنا وهناك تؤكد أن سلسلة المآزق العربية ما زالت طويلة. بل ان المتابع لها يشعر أن هناك خطة مدروسة وموضوعة بكل دقة، لمزيد من إشعال البلدان العربية وممارسة حرقها على طريقة: دولة دولة.

ولعل سوريا هي البلد العربي رقم واحد المستهدف والمهدد والمحاصر بأكثر من خطة ومن هجوم يتخذ أشكالا متعددة.

لذلك، فإن الاعتراف بحرج الوضع السوري، وتشعب الأزمة السياسية التي يعيشها إلى حد التعقد، يمثل أولى خطوات التعاطي مع الملف السوري.

إن إصدار قانون محاسبة سوريا مؤخرا، وإن كان متوقعا، يتجاوز رمزيته الضيقة، ليشمل مدلولات أخرى تتمثل في إعطاء الضوء الأخضر لخطوات أخرى، وكذلك تهيئة تدريجية لمزيد التوغل في إلحاق الأذى الشامل بسوريا.

وها هو عسكري إسرائيلي يوجه تحذيره إلى الرئيس بشار الأسد قائلا إنه سيدفع ثمنا باهظا وربما تقويضا، باعتبار أن سوريا دولة مركزية في محور الشر. إضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يضع التنكر لمنظمة حماس ولحزب الله، وأيضا معالجة ملف أسلحة الدمار الشامل، من بين الشروط اللازمة لإقامة علاقة شراكة معها أو تقديم مساعدة لها.

إذاً، البحر أمام سوريا والعدو وراءها وهي في وضع دقيق.

ورغم كل خطورة التهديدات الموجهة ضدها ورغم قربها من فوهة البركان، فإن الملف السوري قادر على سد ثغرات كثيرة ومنع المتربصين به من تشتيت أوراقه.

ولا يفتنا أن النصيب الاكبر من الأزمة التي تعيشها سوريا يكمن في تشبثها بالمقاومة المشروعة كحق تسانده المواثيق الدولية، إلا أنه لو تمكنت سوريا من معالجة الأزمات المحيطة بهذه المسألة لربما تمكنت من تحويل نظريتها المنطقية حول المقاومة إلى نقطة قوة، وذلك بعد أن تنجح في تحقيق تعبئة سياسية وثقافية في عمق المجتمع السوري، لا سيما أن خيار المقاومة يمثل خيارا استراتيجيا ومرتكزا أساسيا في السياسة السورية الخارجية. فما المقصود بتحقيق التعبئة الحقيقية داخل سوريا ؟

نظن أنه من مصلحة سوريا التمعن مليا في الوضع العراقي والتقاط عبر كثيرة، هي في أمس الحاجة إليها، رغم أن النخب السياسية السورية معروفة بمرونتها واستيعابها لضرورات السياسة، ولعل قيادة الدكتور بشار الأسد لسوريا تجعله، بحكم أنه شاب ويمتلك ثقافة حداثية ومتفتحة، قادر على تجاوز عديد المعوقات ذات العلاقة بالإرث السياسي التقليدي والمنغلق والمنتمي إلى ثقافة ترى في الحاكم ظل الله في الأرض.

لذلك فإن التكوين الثقافي والانتماء العمري للدكتور بشار الأسد يعتبران نقطتَي قوة، تمكّنانه من التحليق بسوريا نحو الديموقراطية والتعددية وإرساء حقوق الإنسان بشكل يليق بالشعب السوري وبنخبه الثقافية والفكرية التي أثبتت تفوقها وإبداعها وذكاءها منذ القدم. فالبلد الذي أنجب في التاريخ الحالي أدونيس والماغوط وسعد الله ونوس ومحمد ملص ونزار قباني... هو بلد لا تنقصه الخصوبة، وهذه الأسماء وغيرها دليل على أن سوريا تتمتع بهامش ثقافي نلمسه حتى في الدراما، وهو هامش يؤكد أن سوريا التي جمعت نخبها الثقافية بين الإبداع والفكر من خلال هضم حقيقي للثقافة وإعادة إنتاجها، والتي أنتجت مسرحا تربى عليه الجمهور العربي الذي طالما تنفس الصعداء في مسرحيات دريد لحام، مثل هذا البلد قادر بحق على إنتاج نفس الهامش على المستوى السياسي، لاسيما أن القيادة في سوريا محاطة بكفاءات مشهود لها بالقدرة على الحوار والإقناع أمثال السادة عبد الحليم خدام وفاروق الشرع وأحمد الحسن والدكتورة بثينة شعبان... وأكيد أن هناك وجوها أخرى تمتلك أهلية المشاركة في خوض تجربة وطنية نابعة من الداخل ومتدثرة بـ«الخصوصيات السورية»، تمكنهم من نحت هامش سياسي على غرار الهامش الثقافي الذي صاغه مبدعون سوريون معروفون.

إن سوريا لها من الإمكانات ما يجعلها قادرة من خلال خطوات جبارة في مجال الحريات من أن تحقق إنجازات اقتصادية هامة عندما توقع اتفاقية شراكة مع أوروبا، إذ أن الصناعات التقليدية السورية مثلا وكذلك المستوى الذي بلغته الصناعة عموما سيفتح لها أبواب اليورو.

ومن الواضح أن معالجة ملف الحريات والديموقراطية بدفعات حقيقية تمثل جوهر المشروع السياسي للدكتور بشار الأسد والفريق العامل معه. وبتوخي مثل هذه المعالجة ستنجح سوريا في مواجهة التهديدات وتكذيب بعضها على الأقل، وتقطع الطريق على كل من يحاول أن يجعل سوريا تدفع ثمنا باهظا.

إن من الخطأ التعامل مع الأزمة الحالية لسوريا على أساس أنها أزمة تخص النظام السوري، لذلك فإن تشريك كافة مكونات المجتمع السوري، بما فيها المعارضة ومختلف الحساسيات الوطنية السورية، سيعزز الموقف السوري وبالتالي سيتحول بتضامنه والتحامه إلى قوة تجيد التفكير المشترك الذي يدفع عن سوريا مشاكل هي في غنى عنها، خاصة أن بيان قمة تونس الأخيرة اكتفى بالتضامن معها في وقت هي تحتاج إلى القرار والفعل.

يبدو أن المطلوب هو خوض مغامرة الديموقراطية بشكل يلفت أنظار العالم، ويشجع بعض الأطراف على الوقوف مع سوريا، في وقت لا معنى فيه للعزلة السياسية. ولعل معالجة ملف الحريات في مجالات الإعلام والنشاط السياسي وحقوق الإنسان تمثل صمام أمان لبلد يعيش تهديدات متعددة ومتساوية الخطورة. وحتى بعض التقدم الذي حصل في المجالات المذكورة فانه حسب البعض لا يحقق تلك الصدمة الإيجابية المطلوبة.

أما علاقة سوريا بلبنان فهي بحاجة إلى توخي سياسة أخرى تقطع، بحق، الطريق أمام المترصدين بها، وأعني بذلك أنه لا بد من سوريا أن تستجمع الشجاعة وأن تعيد صياغة علاقتها بلبنان بشكل توفيقي يلبي ضرورات خيارها الاستراتيجي ويمحو الانتقادات الموجهة ضدها مما يسقط أول أسلحة العدو، وهو أمر يتطلب شجاعة ذاتية وتكتيكا سياسيا قويا وذكيا تخرج بعده سوريا بأزمات أقل وبمساندة دولية. في حين أن نظرتها إلى المقاومة وتشبثها بها كحق مشروع تسانده وتدافع من خلاله عن سيادتها وعن أرض الجولان المحتلة، ستكون الملف الوحيد المطروح فوق الطاولة السورية، أي أنها ستنتقل من مرحلة الأزمات الكثيرة والمشتتة للفعل السياسي السوري، إلى مرحلة التركيز المستند إلى رصيد بال من المؤاخذات.

ولا يخفى أن مثل هذا التحول النوعي يشترط تجاوز مركبات الإرث السياسي العربي السائد وامتطاء الحريات كمنظومة شاملة ومترابطة لا تنفصل عن دفاعها المستميت والطبيعي عن الحق في المقاومة.

فهل يطال الهامش السياسي والإعلامي في سوريا هامشها الثقافي الذي منحها بريقا لم ينطفئ بعد المعري ؟

* شاعرة تونسية وباحثة في علم الاجتماع

[email protected]