رأيت العراق يفرد قامته بعد «انحناء» طويل

TT

العراق الجديد يخرج من تحت الانقاض، من تحت الرماد، من تحت الدمار. من جحيم الآلام والمخاضات التي لا توصف ينبثق العراق. يتنفس، او يحاول ان يتنفس الصعداء، ان يسترجع عافيته، صحته، وجوده، العراق يخرج من بيت الموتى، من تحت الارض. العراق لا يكاد يصدق انه يتحرر من كابوس طويل، طويل، ولا نكاد نصدق معه نحن ايضا.. هذا الصباح فتحت التلفزيون على الفضائيات العربية، وشاهدت مراسيم الاحتفال بالرئيس الجديد والحكومة الجديدة بكل نسائها ورجالها. ولأول مرة احسست بأن الفضائيات العربية المشهورة تتحدث بشكل مسؤول عما يحدث في العراق. بشكل غير معاد سلفا لكل ما يحصل وينجز هناك يوما بعد يوم او ساعة بعد ساعة. واستغربت الامر في البداية، ولم أكد اصدق عينيَّ، لأن هذه الفضائيات كانت شديدة التعلق بالنظام السابق، خاضعة بشكل شبه كلي للديماغوجية القومجية او الاصولية التي عفا عليها الزمن. ثم قلت بيني وبين نفسي: في نهاية المطاف لا يصح الا الصحيح فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض . وكل العنجهيات الفارغة والضجيج والعجيج الذي اصموا به آذاننا صباح مساء اخذ يتلاشى لكي يفسح المجال شيئا فشيئا لخطاب الحقيقة، والواقعية، والاعتدال.

هل يعني ذلك ان الفضائيات اصبحت عقلانية دفعة واحدة وان الخطاب القديم انتهى الى الابد? بالطبع لا. والدليل على ذلك اني قرأت التعليق التالي الدوار في اسفل الصفحة الاخبارية التلفزيونية: محمود عثمان يشكك في رحيل الاميركيين، ويقول بأن مشروعية الحكومة الجديدة صفر! استغربت ان ينسب الى رجل محترم ومسؤول في القيادة العراقية الجديدة كلام تناقضي وسلبي جدا من هذا النوع. فنزلت الى الشارع فورا واشتريت جريدة «اللوموند» الفرنسية، وقرأت المقابلة التي اجرتها معه بكاملها. فوجدت لهجتها ايجابية جدا تجاه الرئيس الجديد غازي الياور ورئيس الوزراء الجديد اياد علاوي، ولم الاحظ اطلاقا بأنه يتمنى فشل الحكومة. على العكس فإنه يطالب العراقيين باعطائها مهلة من الزمن قبل الحكم عليها، بل ويضع يده على قلبه خوفا من الفشل او من محاولة الاميركيين السيطرة على كل شيء، وكذلك من محاولات اصحاب السيارات المفخخة من تدمير البناء الوليد الذي لا يزال غضا وهشا.. ثم يكشف بكل صراحة عن كيفية تحدي مجلس الحكم لبريمر الذي اراد فرض رئيس آخر، ثم فشل امام اصرارهم واجماعهم على مقاومته.

مهما يكن من امر، فإن المسألة الاساسية ليست هنا. المسألة الاساسية تتجاوز في الواقع العراق لكي تشمل المنطقة العربية والاسلامية بأسرها. وبناء على حسمها سوف يحسم مصيرنا جميعا. كان بعض المثقفين العرب والاجانب قد شبهوا تدخل اميركا في العراق من اجل زرع الديمقراطية فيه بتدخلها بعد الحرب العالمية الثانية في المانيا واليابان من اجل اعادة الديمقراطية اليهما.

كنت اعتقد ولا ازال بأن هذا التشبيه خاطئ من اساسه. فالحالة التاريخية للعراق لا يمكن مقارنتها بحالة المانيا او اليابان عام 1945، إلا من حيث الدمار الذي خلفته الحروب والايديولوجيات العمياء. اما ما عدا ذلك فكل شيء مختلف.

كان ينبغي على المثقفين العرب والاجانب ان يقارنوا وضع العراق الحالي بوضع اوروبا بعد غزو نابليون بونابرت لها في بدايات القرن التاسع عشر حاملا معه رياح الافكار الجديدة للثورة الفرنسية. وهذا ما فعلته انا شخصيا في مقالات نشرتها «الشرق الاوسط» قبيل الحرب بقليل، ثم في اثنائها وربما بعدها. وقد استشهدت بعبارة هيغل الشهيرة التي يقول فيها: «رأيت الامبراطور، روح العالم، على حصان».. والامبراطور هنا هو نابليون بونابرت الذي كان يخترق شوارع المدينة الالمانية «يينّا» فاتحا ومتبخترا بعد ان انتصر في معركته الشهيرة على الجيوش الالمانية. وعلى الرغم من اعجاب هيغل به وهو يغزو بلاده الا ان احدا لم يتهمه بالخيانة لا سابقا ولا لاحقا لسبب بسيط هو ان النظام السائد في بلاده كان اقطاعيا، اصوليا، يخنق الانفاس والعقول. وبالتالي فلماذا يزعل عليه? لماذا يدافع عنه? وكان نابليون على الرغم من دوافعه الشخصية والقومية الفرنسية يحمل معه افكارا تصلح لكل الشعوب الاوروبية، او قل تطمح اليها كل الشعوب الاوروبية: كالحرية، والمساواة، والاخاء والغاء النظام القديم للفكر والسياسة. وهو النظام الذي ساد اوروبا طيلة قرون عديدة.

ولذلك، فإن الشعوب الاوروبية عندما جاءها نابليون فاتحا كانت عطشى للحريات الفردية والجماعية: كحرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية التجمع والتنقل من مكان الى مكان، والحريات السياسية القائمة على انتخاب النواب من قبل الشعب. وهذه هي حالة العراق الآن.. انظر كيف انفتحت فيه الافواه دفعة واحدة بعد ان كانت مكمومة لفترة طويلة، وكيف انتشرت الصحافة بالعشرات وربما بالمئات في كل انحاء البلاد كدليل على الجوع الهائل للحكي، والتفكير والتعبير، بل وحتى الصراخ. ولكن هبة الحرية هذه لم تدم طويلا. فسرعان ما تحالفت القوى المحافظة في اوروبا ضد نابليون واسقطته بعد معركة واترلو الشهيرة عام 1815، ثم اجتمعت هذه القوى التي تدعو نفسها بالتحالف المقدس، اي الاصولي، في مؤتمر فيينا بزعامة مترنيخ ووضعت حدا للمغامرة النابليونية. وعلى انقاضها اعادت النظام القديم «الذي كان نابليون قد اسقطه» الى اوروبا. وهكذا عدنا من جديد الى الوراء. او هكذا خيل الينا. فالواقع انه اذا كانت الانظمة الاقطاعية الارستقراطية قد عادت الى الحكم الا انها لم تستطع ان تقضي على الافكار الجديدة التي الهبت الارواح والنفوس بين عامي 1789 تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية، و 1815 تاريخ سقوط نابليون، فالافكار الجديدة التي زرعها فلاسفة كبار من امثال جون لوك، وهوبز، وسبينوزا، ثم بالاخص جان جاك روسو، والتي تجسدت في الثورة الفرنسية والاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن، اقول هذه الافكار الجديدة لم تمت بسقوط النسر نابليون ولا بانتصار الداهية الرجعي الكبير مترنيخ. الافكار الجديدة لا تموت اذا كانت تمشي في اتجاه حركة التاريخ وتعبر عن المطامح العميقة للشعوب، ولذلك راحت تفعل فعلها تحت السطح وتنخر في جسد اوروبا القديم المتحنط حتى أودت به في نهاية المطاف.

ماذا يعني كل ذلك؟ انه يعني ان الولادة صعبة وعسيرة، وانه ينبغي ان نموت الف موتة قبل ان ينتصر الجديد على القديم، بل وفي احيان كثيرة عندما نتقدم خطوتين الى الامام قد نضطر الى التراجع خطوة واحدة الى الخلف لكي نلتقط انفاسنا ونبتدئ مسيرة التقدم من جديد، ثم ان ثمن التقدم باهظ. كم هو عدد المسؤولين العراقيين او الناس العاديين الذين ماتوا بالتفجيرات والسيارات المفخخة? وكل هؤلاء، ومن سبقهم في عهد صدام، هل ماتوا عبثا او مجانا? ظاهريا نعم. ولكن عمقيا او باطنيا يقول لنا هيغل بأن موتهم كان ضروريا لكي تتقدم حركة التاريخ الى الامام. قد يبدو هذا الكلام وقحا وبلا شفقة او رحمة. فلنقل اذن بأنهم ماتوا كالشموع بعد ان أضاءوا لنا الطريق. لهذا السبب يضع المرء يده على قلبه عندما يشاهد ممثلي العراق الجديد وهم يقدمون انفسهم ويتحملون مسؤولياتهم. فهؤلاء سوف يصبحون فورا هدفا مباشرا للقوى الجهنمية الشريرة التي تريد تدمير العراق وغير العراق. والسباق اصبح محموما في المنطقة العربية والاسلامية بأسرها بين قوى التقدم والمستقبل والحرية، وقوى التقهقر والظلامية. والمعركة لم تحسم بعد، وان كنا نعتقد بأن القوى الارتكاسية سوف تخسر اخيرا ومهما طال الزمن.