غرباء الروح واللسان

TT

أوشكنا أن ننسى الملك الضليل مع اننا وعدنا بالعودة اليه لنؤنس غربته ويلطف وحشتنا، لكن لا عليك من سهوة البال وتزاحم مآسي العصر الحديث التي تورث النكد والبلبال فذاك الشاعر الغريب يستعصي على النسيان لأنه ببساطة مفتاح الشعر الجاهلي الأكثر حداثة من ركيك المحدثين، وقصائده البوابة الحقيقية لفهم الجزيرة العربية قبل الرسالة المحمدية. ويكفيك على ذلك دليلا ان الدكتور جواد علي ذكره في كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام» بأجزائه العشرة قرابة ألف مرة، ولم يكن في هذا الموقف مبتدعا أو متعصبا لهذا الشاعر فالذين قبله أعطوا لحامل لواء الشعراء الى النار ذات الأهمية، ففي شعره ما تشاء من أساطير وتواريخ وعقائد وزينة نساء ونميمة رجال وروائح نباتات وثقافة صعاليك وثارات سادة وعبيد وزهد رهبان وشبق عشاق وحكايات تمنع واباحية ومواقف وجودية وفلسفية عميقة الأثر والدلالات.

وكأني بهذا الشاعر قد حرص من حيث يدري او لا يدري على ان يكون شعره مرآة لكل ما رآه في بلاد العرب والاحباش والعجم والروم في عمره المكثف الذي أضاع نصفه الاول في الشراب والثاني في الظمأ، فقد أقسم ذلك الشاعر الارهابي المدلل حين جاءته الأخبار بقتل الاسديين لأبيه ألا يقرب الطيب والنساء والخمر حتى يقتل من بني أسد مائة شخص، وقال حينها عبارته التي صارت مثلا: «اليوم خمر وغدا أمر»، وأتبعها بوصمة ملامة للأب الذي ضيعه صغيرا وحمله وزر دمه كبيرا.

لقد أجبرت الظروف ذلك الشاعر على التحول الى رحالة من نوع خاص واكسبته رحلته الاضطرارية نظرا لصعوبتها وتشعبها وضياعه خلالها لقب الملك الضليل، فمسيرته الطويلة في طلب ثأر أبيه حملته من اليمن للعراق وتخوم بلاد فارس وطوحته في قلب جزيرة العرب قبل ان تقذف به شمالا الى بلاد الشام ثم الى قيصر الروم الذي يشك كثيرون في قدومه عليه، لكن الوثائق البيزنطية لعهد القيصر جوستنيان تشير الى رجل اسمه امرؤ القيس أكرمه ذلك القيصر وعينه حاكما ( فيلارخ) على احدى مناطق الشام التابعة للامبراطورية.

ان الرحلة الرومية وهي الأخيرة في حياة الملك الضليل الذي لم يتوقف عن الرحيل هي التي ولدت قصائد الشجن المصفى تماما كما فعلت رحلة المتنبي الاخيرة الى عضد الدولة في شعب بوان فكأن الفتيان العرب لا يحسون بعمق الغربة الأصلية في أرواحهم الا حين تختفي اللغة العربية من حولهم، فغربتهم بهذا المعنى لغوية بالدرجة الاولى وموت معنوي يسبق ذلك الموت المادي الذي جعل من امرئ القيس عند سفوح جبل عسيب عضو شرف أبديا في نقابة غرباء الديار الكونية:

أجارتنا ان المزار قريب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب نسيب

ان الغربة لا علاقة لها بالجغرافيا فهذان الشاعران العربيان غريبان وهما في قلب العشيرة (ولست منهم بالعيش فيهم..) وكل صاحب حساسية انسانية مرهفة لا بد ان يحس بالاختلاف عن الرتابة والبلادة اللتين تحيطان به وكل ما تفعله الجغرافيا، خصوصا اذا كانت خارج منطقة اللغة ـ غريب كامو ليس في منطقة لغته ايضا ـ انها تزيد من تعميق حالة الاغتراب الروحية التي يولد بعض الناس بها ويواصلون العيش بها الى ان يحملوها معهم الى قبورهم، فغربة الروح واللسان مهدية لحدية ترافق المرهفين نفسيا من دفء الرحم الى جوف الثرى.

[email protected]