آخر الكلمات

TT

آخر كلمات سمعتها من والدي رحمه الله وهو على فراش المرض، أو بالأحرى آخر كلمات قرأتها منه، لأنه في آخر أيامه لم يكن يستطيع الكلام، وإنما يخاطبنا عبر الكتابة، وقد كتب هذا البيت من الشعر: «إن شفتكم ربع فؤادي بالأزهار/ وإن كان غبتوا صفق القلب مقهور»، ثم (تشهد)، وبعدها غاب عنا هو، وغبنا نحن عنه أيضاً.. وأتمنى أن يجمعنا الرحمن معه في مكان لا فراق بعده، ولا دمع، ولا نواح.

وهناك الكثير ممن حفظ التاريخ كلماتهم الأخيرة كالفيلسوف (غاندي)، عندما عبر عن حيرته البالغة قائلا: ولدت لا أدري لم؟ وعشت لا أدري لم؟ وها أنا أموت من دون أن أدري لماذا ولا كيف؟

ولا ننسى (وولتر رالي)، الذي حكمت بإعدامه الملكة اليزابيث الأولى، فقد تحسس (البلطة) التي سيضرب بها الجلاد عنقه، وعلّق بالآتي: هذا دواء حاد المذاق، ولكن فيه شفاء أكيد من كل العلل.

والزعيم المصري (سعد زغلول) قال وهو يخاطب زوجته بكل يأس: ما فيش فايدة غطيني يا صفية.

أما الطبيب الاسكتلندي (جورج كومب) فقال لمن حوله: ان إحساساً قوياً ينتابني الآن بأنني احتضر وانني مسرور بذلك جداً، واخذ يضحك، ويضحك حتى فاضت روحه وأسنانه مشرعة عن آخرها حتى الأضراس، إلى درجة أنهم وجدوا صعوبة في إغلاق فمه بعد أن مات.

وفي نظري أن كل (الميتات) من الممكن أن تكون مقبولة، إلاّ ميتة الإمبراطور الروماني، الذي نسيت اسمه، وأكد على كل من حضروا وفاته، على أن يدفنوه في قبره واقفاً على أقدامه لأنه على حد قوله: «الأباطرة يجب ألاّ يموتوا إلا وهم وقوف»، وفعلاً دفنوه واقفاً، وما هي إلاّ أيام قليلة حتى اعتلى كرسي الحكم إمبراطور جديد من أعدائه، فنبش قبر المسكين وغير وضعه بالعكس، جاعلاً رأسه إلى الأسفل، وأقدامه إلى الأعلى، ولا زال إلى يومنا الحاضر (مصلولاً) على رأسه.

أما (غودين) الذي اتهم بقتل أخيه، فأجاب المحققين معه انه بريء، ولكي يبرهن على براءته، قال: سأثبت لكم أنني بريء، وابتلع كسرة من الخبز، غير أن الكسرة وقفت في حلقه، فاختنق ومات.

وأروع ميتة، وبمعنى آخر أسخف ميتة، هي ميتة الرئيس (جيمس بولك)، الذي اخذ يهمس، ثم يهمس، ثم يهمس موجها كلامه لمعشوقته وهو يحتضر قائلا: احبك يا سارة، احبك، احبك، وكانت تلك الكلمات إشادة صادقة بسطوة امرأة ملكت شغاف قلبه.. وما هي إلاّ عدّة اشهر مضت فقط على وفاته، وبعد أن اطمأنت المحروسة (سارة) إلى وضعه المريح والمحكم الإغلاق في قبره، حتى انطلقت على (حل شعرها) الحريري، في رحلة عاطفية حميمة مع عشيقها الجديد، في سفينته التي كان قد أوصى لها بها، ولا استبعد أبداً أن ذلك العشيق المحظوظ قد تقلب أيضاً على سرير الرئيس (جيمس)، الذي كانت آخر كلماته: احبك، احبك!

ولا أدري ماذا سوف تكون آخر كلمات القارئ الكريم؟ وإذا أراد أحد أن يأخذ مشورتي، فعليه أن يفعل مثلما فعل الطبيب الاسكتلندي (جورج كومب).