سؤال لأوروبا: أهو خوف من تركيا.. أم من الإسلام؟

TT

لا يزال شبح تركيا يطرق ابواب الاتحاد الاوروبي الذي وسعت عضويته في الآونة الاخيرة وبات يضم 25 دولة. ترى، هل يجب ان تفتح اوروبا بابها أمام تركيا ام تجد ذريعة اخرى للإبقاء على الباب موصدا في وجهها؟ هذا السؤال مدرج الآن في جدول اعمال قمة الاتحاد الاوروبي المقرر عقدها في دبلن في وقت لاحق من الشهر الجاري.

وتشير الاوضاع الراهنة الى ان فرص توجيه الدعوة الى تركيا للانضمام الى عضوية الاتحاد الاوروبي لا تزال ضئيلة، ذلك ان العديد من الدول الاعضاء الرئيسية في الاتحاد اعلنت نيتها في عدم دخول تركيا حتى اذا استلزم الأمر استخدام هذه الدول حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به.

فالرئيسان الفرنسي، جاك شيراك، والايطالي، سيلفيو برلسكوني، اعلنا بوضوح معارضتهما لضم تركيا الى عضوية الاتحاد الاوروبي. اما المستشار الألماني غيرهارد شرودر فقد لوح بمعارضته لضم تركيا وإن كانت معارضته اقل حدة وليست واضحة وصريحة، اذ انها نابعة في الاساس من حرصه على تحاشي التراجع أمام الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض. فيما يؤيد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي، لكنه من المستبعد ان يقاتل في سبيل ذلك.

الحجج الرسمية التي ساقها معارضو انضمام تركيا الى عضوية الاتحاد الاوروبي معروفة وواضحة. يقول هؤلاء ان القطاع الزراعي في تركيا بالغ الضخامة على نحو يهدد بافلاس الاتحاد نتيجة المطالبة بالدعم بموجب «السياسة الزراعية المشتركة». الا ان هذه الحجة تتلاشى عندما نأخذ في الاعتبار ان هذه السياسة وصلت الى طريق مسدود بقبول اعضاء جدد من اوروبا الشرقية والوسطى، فضلا عن الضغوط المتزايدة الرامية الى إلغاء الدعم الزراعي كآخر عقبة في طريق التجارة الحرة العالمية.

ثمة حجة اخرى يسوقها المعارضون لانضمام تركيا مفادها ان تركيا لا تتبع نظام حكم ديمقراطي كاف لقبولها عضوا في الاتحاد. وهذه حقيقة. فتركيا ربما تكون في حاجة الى عدة عقود قبل ان تصبح ديمقراطية ناضجة. ولكن يجب ان نلاحظ في نفس الوقت ان عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي ربما تساعد في تسريع خطوات عملية تطبيق النظام الديمقراطي في مناحي الحياة والمؤسسات كافة مثلما حدث في البرتغال واليونان ومثلما يحدث حاليا في الدول الشيوعية السابقة.

الى ذلك بدأت تركيا خطواتها الاولى للسير باتجاه اوروبا مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي وسعت الى الحصول على عضوية كاملة في الاتحاد الاوروبي خلال عقد الثمانينات. إلا ان الاتحاد طالب بإجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية كوسيلة لتأخير المفاوضات الجادة بشأن الطلب التركي بالانضمام الى الاتحاد. وبدأت تركيا خلال العقدين السابقين عمليات اصلاح تدريجية استهلتها بجرعة كبيرة من تحرير اقتصادها بقيادة تورغوت اوزال. وتحت ظل ائتلاف حكومة يسار الوسط بدأت تركيا اصلاحات دستورية الهدف منها تقليص نفوذ الجيش في السياسة وتحسين اوضاع حقوق الانسان ، فيما واصلت حكومة يمين الوسط الحالية بقيادة رجب طيب اردوغان عملية الاصلاحات بتصميم وقوة اكبر.

الا ان التزام تركيا بالمطالب الاوروبية، بما في ذلك بعض المطالب التي يصعب تنفيذها، لم يسفر عن تأثير يذكر على الاطراف التي تسعى لإغلاق الباب أمام قبولها في الاتحاد. اما السبب في ذلك، فيعود في الاساس الى ان اسباب رفض هؤلاء المعارضين ايديولوجية اكثر منها سياسية او اقتصادية.

وقد طرحت هذه القضية أمام المستشار الألماني السابق هيلموت كول خلال لقاء لي معه في العاصمة الفرنسية قبل ما يزيد على عام تقريبا، علما بأن كول ظل معارضا لفكرة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي منذ عقد الثمانينات. كما ان زواج نجله من فتاة ذات اصول تركية لم يغير من موقفه شيئا. قال كول مؤكدا ان الاتحاد الاوروبي «رابطة تضم مجموعة من الدول ذات التراث المسيحي» وأن تركيا دولة «ذات تراث اسلامي» وبالتالي لا مكان لها في الاتحاد.

سمعت بعد فترة وجيزة حجة مماثلة من الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان بعد جلسة للجنة الدستور الاوروبي عقدت في لندن، اذ قال ديستان ان «تركيا تتبع لحضارة مختلفة»، وقال ايضا ان «تركيا كمجتمع مسلم لن تشعر بالارتياح في اوروبا».

اقدر شجاعة ووضوح كل من كول وديستان والتعبير عن مواقفهما بكل صراحة، رغم ان الإدلاء بمثل هذه المواقف والتصريحات امر سهل عندما يكون الشخص خارج السلطة. فقد صرحا بالصوت العالي عما يفكر به القادة الاوروبيون في صمت. فتركيا لدى البعض تعني الاسلام، والاسلام يعني مخاوف تاريخية قديمة في اوروبا. اذ تضم الكاتدرائية الكائنة في وسط العاصمة النمساوية فيينا نقوشا يظهر فيها الخليفة العثماني كلبا. كما ان انواع الكعك الهلالي الذي يأكله الكثير من الاوروبيين في وجبة الإفطار هو في واقع الامر رمز هلال الاتراك العثمانيين الذين وصلت جيوشهم الى مشارف العاصمة فيينا قبل حوالي 400 عام.

ولكن، هل يكفي ذلك لإغلاق الاتحاد الاوروبي ابوابه في وجه تركيا؟

قطعا لا.

بداية، الادعاء بأن الاتحاد الاوروبي ناد مسيحي قول زائف وخطير في نفس الوقت. فمن جملة الدول الاعضاء الـ25 لا تتعدى نسبة من يعتبرون انفسهم مسيحيين يمارسون شعائر الديانة المسيحية 30 في المائة فقط. فاذا كان دين الشخص عند ميلاده معيارا اساسيا، فإن ما لا يقل عن 20 مليون شخص من سكان الاتحاد الاوروبي مسلمون. بل ان الاسلام يشكل ثاني اكبر ديانة في الاتحاد الاوروبي. كما ان هناك حوالي مليوني يهودي فضلا عن ملايين اخرى من الاوروبيين الذين اعتنقوا مجموعة من المذاهب الاخرى، ابتداء من البوذية وانتهاء بالعديد من الطوائف الرائجة الآن. وما يمكن قوله إذن هو ان اوروبا الآن عبارة عن سوبرماركت هائل للديانات والايديولوجيات السياسية التي تترك فيها حرية الاختيار للفرد لا للدولة.

من المفترض ان تكون الديمقراطية الاوروبية قائمة على اساس فصل الدين عن الدولة، لذا لا يمكن ان يكون للاتحاد الاوروبي دين محدد. وعليه فإن استغلال المسيحية كوسيلة لاختراع «هوية» حصرية للاوروبيين لا تقل خطورة عن استخدام النازيين لما يسمى بعامل الأصل العرقي للتمييز بين تفوق الرجل الآري «السوبرمان» ودونية الأعراق الاخرى.

ومن الناحية الاخرى، فإن الادعاء بأن تركيا دولة «اسلامية» خاطئ ايضا. فالدولة التركية ليس لها دين رسمي وظلت دولة علمانية على مدى حوالي ثمانية عقود، أي قبل وقت اطول بكثير من الكثير من بلدان الاتحاد الاوروبي. وفيما تدين نسبة 98 في المائة من الاتراك بالاسلام، فإن الانتاج الثقافي التركي للدولة التركية، من الشعر الى الفلسفة الى الموسيقى والمعمار، كله تقريبا علماني.

يضاف الى ما سبق ان تركيا ظلت على مدى نصف قرن تقريبا خط الدفاع الاوروبي الاول ضد الاتحاد السوفياتي السابق (كان الجيش التركي ولا يزال ثاني اكبر جيش داخل حلف شمال الاطلسي بعد الجيش الاميركي)، علماً بأن فرنسا او ألمانيا لم تعترضا على ان يدافع عنهما خلال تلك الحقبة «جنود مسلمون» في اطراف اوروبا.

رغم المواقف المعارضة لانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، فإن عضوية تركيا للاتحاد الاوروبي ربما تكون هبة من السماء للذين لا يريدون ان يتحول الاتحاد الاوروبي، الذي كان في بداية الامر ناد للتجارة الحرة، الى دولة كبرى. كول وديستان يحلمان بقيام ولايات متحدة اوروبية تستخدم فيها الكثير من جنسيات القارة هوياتها وثقافاتها الخاصة بها. ويشارك كول وديستان بحلمهما هذا الكثير من الفاتحين والغزاة في التاريخ، من شارلمان الى هتلر مرورا بنابليون. انهما لا يدركان ان اوروبا نجحت في ايجاد العالم الحديث بفضل التنوع الذي ساهم في ايجاد مجالات بديلة للابتكار بل وحتى للاختلاف السياسي والديني والعلمي اذا اقتضى الامر. فلو كانت اوروبا امبراطورية مستبدة شاسعة وواسعة الأرجاء، كما كان عليه الحال في روسيا تحت ظل حكم القياصرة، لما تمكنت من رعاية وتطوير التعددية التي ساهمت بدورها في جعل الديمقراطية والتقدم واقعا.

انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي سيؤكد من جديد على سمة التنوع في القارة الاوروبية ويجعل من الصعوبة بمكان على مؤيدي دولة اوروبا العظمى إقناع الناخبين بالتخلي عن هوياتهم الوطنية. ويبقى ان على الذين يرغبون في ان تظل اوروبا اوروبية تأييد قبول عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي.