حكومة المهمات المستحيلة

TT

لو استثنينا حزمة الظروف الحرجة التي يعيشها العراق، فان ولادة الحكومة العراقية وتنصيب رئيس للبلاد يدعو إلى التفاؤل ويحفز المتابع على النظر بعين ملؤها الأمل بمستقبل واعد برغم سوء الطالع الذي صاحب العراق منذ عهود طويلة.

ثمة فرصة يجب اقتناصها, وعلى كل عراقي ان يتوسم خيرا بحكومته مهما كانت تحفظاته بعيدا عن حديث التخوين واتهامات العمالة التي يلهج بها طابور من المحللين على الفضائيات العربية... لكن التفاؤل لا يجوز المغالاة به, إذ أمام حكومة اياد علاوي تحديات جسام من شأنها تقويض كل هذه الآمال في حال لم يتم التصدي لها بالشكل الصحيح.

أول ما تواجهه الحكومة العراقية العتيدة «ازمة المشروعية»...فجزء لا يستهان به من العراقيين ينظر إليها كسليلة للاحتلال مثل سلفها مجلس الحكم, وهنا تقع على أعضاء الحكومة مهمة إزالة هذا الالتباس, وطرد هذه التهمة عبر النظر أولا وأخيرا الى مصلحة المواطن العراقي الذي ابتُلي بمئات النكبات عوضا عن النظر الى حسابات الربح والخسارة وحصص هذه الطائفة وامتيازات تلك القومية. وذلك لن يتم الا من خلال سياسة عراقية صرفة ورشيدة تبتعد قدر المستطاع عن التأثيرات الامريكية، علما بان ذلك مستحيل في هذه المرحلة, وحتى في المستقبل القريب.

لكن ازمة المشروعية ليست اخطر التحديات التي تواجه الحكومة العراقية الجديدة, بل إن العنف الذي يجتاح البلاد من أقصاها الى أقصاها هو اشد خطورة. فعنف الحالة العراقية في كثير منه ارهابٌ بكل معنى الكلمة برغم وجود بعض حالات المقاومة المشروعة التي ما زالت تفتقر الى البرنامج السياسي الواضح. صحيح ان السياسة الأمريكية الخاطئة في تعاطيها مع الشأن العراقي غداة خلع صدام حسين ساهمت في رفع منسوب الارهاب في العراق, الا ان النتائج المترتبة على هذه السياسة لن تتحمل وزرها القوات الامريكية وحدها, بل انه تورط معها كل عراقي ليدفع بجريرتها فاتورة غالية، غالبا ما تكون من دمه. لذا لا يمكن لحكومة علاوي ترك هذه المهمة الى قوات التحالف التي اثبتت فشلها في ادارة الشأن الامني ومواجهة الارهاب, بل عليها اخذ المبادرة سريعا والتصدي لظاهرة تزداد اتساعا. كيف لا وأمامنا تقرير لمعهد الدراسات الدولية في لندن يقول ان الفي عنصر من تنظيم القاعدة تغلغلوا في أنحاء متفرقة من العراق.

والى جانب هذين التحديين, ثمة أزمة خانقة على الحكومة العتيدة العمل على التخفيف من عبئها, فمئات آلاف العراقيين العاطلين عن العمل يفترشون الطرقات ويشكلون قنابل موقوتة ومشاريع ارهابية جاهزة في حال ظلت دولتهم غائبة عنهم، فالبديل حاضر ما لم تتعامل الحكومة الوليدة مع الأزمة الاقتصادية والبطالة المتفاقمة بسرعة قصوى.

إعادة رسم صورة العراق الحضارية تشكل تحديا جديا للحكومة الجديدة, فالصورة الحالية ملطخة بأشلاء القتلى, وفيها من الدماء ما يفيض على كل دول الشرق الأوسط, ولا يكاد يمر يوم حتى يسقط العشرات وبأبشع الطرق، لذا فان حكومة علاوي مطالبة برسم صورة العراق من جديد: عراقُ العراقة والحضارة, عراق الرافدين من سومر الى بابل وآشور وصولا الى العباسيين ودولة الخلافة.

يحدو كل عاقل الامل في عراق معافى, لكن تجارب سابقة قد لا تكون مشجعة في حال نسجت حكومة علاوي على ذات المنوال... فعلى سبيل المثال لا الحصر كان أمام الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد اتفاق الطائف فرص تاريخية ,لكن أهل الحكم في لبنان أضاعوها ولم يستغلوها برغم مرور أربعة عشر عاما على سكوت المدفع وإيقاف الحرب... فالزعامات اللبنانية وبدل ان تأخذ العبر من نتائج الحرب الكارثية للعمل على بناء دولة قادرة وفاعلة ومواطن لبناني صحيح, بدل كل ذلك غرقت في حسابات المغانم وتصفية الحسابات, فكان أن ازدادت الطائفية واستشرى الفساد في ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة, فكانت دولة المزارع عوضا عن دولة القانون. صحيح ان الحكومة العراقية الحالية هي حكومة ذات طبيعة مؤقتة لكن ذلك لا يعفيها من المسؤولية الملقاة على عاتقها وهي مسؤولية كبيرة جدا... لذا فان تكرار تجربة الأخطاء اللبنانية في العراق ستكون كارثية في ظل المناحي الطائفية والقومية والاثنية التي تضج بها البلاد.

لا يوجد مؤشر لقياس موقف العراقيين إزاء حكومتهم الجديدة ـ المؤقتة بعد مضي قرابة الشهر على إعلانها ـ برغم ان ثمة من استقبلها منذ الإعلان، بالتفجيرات الانتحارية... لكن ضيق الأفق, وندرة الخيارات لا تترك أمام أي عاقل فرصة أخرى سوى المراهنة على حكومة علاوي كحكومة المرحلة وحكومة المهمات الصعبة, وبدل رجمها منذ ولادتها يجب اعطاؤها مساحة حرة لتعمل ليس فقط من قبل العراقيين انفسهم بل من كل دول العالم، وخصوصا «ابناء الجلدة»، الدول العربية، وتحديدا بعض دول الجوار التي من المفترض أن تكون تخلت عن أجنداتها ومشاريعها الخاصة في العراق لتبادر فورا الى المساعدة لإعادة الأمن والاستقرار لهذا البلد، لان الفشل في العراق يعني الطوفان بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

* كاتب وإعلامي عربي