مداخن صديقة

TT

لا يزال بعض اصدقائي يدخّن. وبعض خصومي ايضاً. والاخيرة طبقة واسعة تشمل كل انسان يلتهم سيجارة في اي مكان عام ادخل اليه. في الماضي كانت الشعوب تعرف من ازيائها فأصبحت الآن تعرف من نسبة المدخنين فيها. وعندما اصل الى بلد واجد ان الناس تدخن في المطار، اقرر فوراً موعد عودتي. والعالم قسمان: الاول حيث يطلب منك سائق التاكسي الامتناع عن التدخين، والثاني حيث تطلب انت من السائق اطفاء السيجارة، لكي تكتفي من آثار الروائح، بما علق في المقاعد والسقف وقميص السائق المزهر مثل حدائق بادن بادن.

لقد مضى حوالى ربع قرن الآن على العصر الذي كنت فيه متوحشاً وقليل الذوق واملأ المنافض بأعقاب السجائر حيثما حللت. وكنت انتظر في محطة التاكسي في شوارع باريس ساعة كاملة، فإذا جاءت سيارة وعليها «ممنوع التدخين» اعتبر ذلك اهانة لكرامتي وانتظر ساعة اخرى. وفي اوروبا اليوم لم تعد هناك سيارات مسموح فيها التدخين، الا سيارة جنابك.

يتمتع اصدقائي المدخنون بتهذيب مثالي. فعندما نلتقي في عشاء او غداء، يلتفت اليك صاحب المحرقة ويسألك برقة فائقة: هل تضايقك السيجارة؟ بماذا يمكن ان تجيب؟ اذا قلت الحقيقة فلن تراه بعد اليوم، واذا جاملت فكذبت فعّد سعلاتك. كلما نفخ جنابه عليها (الدنيا) نفخة، سعلت حضرتك سعلة. وارتجت حنجرتك. وامتلأت ثيابك بروائح السبسب على رأي المغاربة وتعابير محمد شكري. وعندما اعود الى المنزل وتأتي ابنتي لمعانقتي سرعان ما ترتد مذعورة الى الخلف، متسائلة في لوعة: بابا وين كنت؟

بابا، يا حبيبتي، يكون مع اصدقائه. مداخن مثل مداخن لندن في فيلم «ماري بوبنز» للعزيز ديزني. كح. كح. هل تزعجك السيجارة؟ يضايقك التدخين؟ ابداًَ. ابداً. وادفع الثمن الباهظ في البيت. ابنتي تحرمني تحية تصبح على خير. وثياب تلك السهرة تذهب فوراً الى المحجر الصحي لكي لا تبقى رائحة البيت عابقة بالسباسب. ثم تجتمع العائلة كلها لتحاكمني من بعيد من دون ان يقربني احد: «هل حقاً انت ايضاً لم تدخن؟ قل الحقيقة. احلف على رأس ابنتك».

افعل ذلك بتقطع لانني اكح. واي كلام اتفوه به اقوله في صوت مبحوح. وادخل الى غرفتي كالأجرب. ولو رأى افراد عائلتي نظرات الامتعاض التي ترتسم على وجوههم وهم يستفظعون لحاولوا ان يكونوا اكثر رأفة بضحية اخرى من ضحايا التدخين الصديق. وانا سعيد الآن بالحملة التي تشنها الدولة السعودية. وسعيد بقرار دبي منع التدخين في الاماكن العامة. ويجب ان يظل التدخين مسموحاً فقط في القطبين المتجمدين. وفي الغابات، حيث لا وجود لمنظمات الرفق بالانسان. ولا بالحيوان.