رأيت أبو قتادة في غرفة ابراهام لنكولن

TT

عروبة واشنطن، وحرب اهلية داخل الادارة الامريكية، وبيان لسفراء سابقين يهدد بانهيار ادارة بوش، وعرب في فرجينيا يهزمون مرشحي المنظمات اليهودية، ومؤسسات اسلامية تحول امريكا الى مجتمع اسلامي. هذه مجموعة استنتاجات وعناوين نشرتها بعض الصحف والفضائيات العربية، قد يقبلها من لا يعرف واشنطن، ويقبلها ايضا من لا يعرف امريكا، لكن ليس هناك عاقل ممن يعرفون، ولو النزر القليل عن امريكا، او عن واشنطن، يقبل بمثل هذا التصوير المشوه، وفي بعض الاحيان الكذب البواح الهادف الى التضليل وليس الاعلام، فيما يخص ما يحدث في اهم دولة في العالم. ولنأخذ بعض الامثلة من هذه العناوين المضللة ونناقشها واحدة واحدة، ذلك لأن الكتابة المضللة عن امريكا لا تضر امريكا، ولكن تضر بالعرب وتصيب مصالحهم في مقتل.

فعندما يتخذ صانع القرار العربي موقفا سياسيا مبنيا على هذه المعلومات الخاطئة، فهو بذلك يضر بمصلحة بلده ولا يضر امريكا بشيء. ما يحدث الآن، هو اعلى درجة من درجات خداع الذات.

استغربت كثيرا عند قراءتي مقالا لكاتبة ومسؤولة في احدى الدول العربية عن دور نشطاء الجالية العربية في حملة عضو مجلس النواب جيم موران (وليس موراند كما ذكرت الكاتبة)، وقدرتهم على انجاحه في الانتخابات التمهيدية، ضد مرشح قيل انه مؤيد من انصار اسرائيل. المعلومات الاولية التي يجب ان يعرفها الجميع، هي ان جيم موران هو مرشح المقاطعة الثامنة من شمال فرجينيا عن الحزب الديمقراطي. وسيواجه في نوفمبر مرشحا جمهوريا قويا هو ليسا ماري تشيني المتخصصة في قضايا الدفاع.

اولا، جيم موران فاز في الانتخابات التمهيدية داخل حزبه وليس في الانتخاب الاصلي، اذن هذا التفاؤل المفرط غير مبرر.

ثانيا، الاساءة التي يرى اليهود ان موران قام بها تجاههم، هي ليست بالقضية السهلة في المجتمع الامريكي، وتكاد تقضي على مستقبل موران السياسي الى الابد، ان لم يكن اليوم فغدا، وذلك لأن كثيرين ممن هم اكبر واقوى واغنى من موران هزموا لذات السبب. موران نفسه قدم اعتذارا لليهود اكثر من مرة في اكثر من مقابلة لتفادي هذا المصير.

ثالثا، وهو الامر المهم بالنسبة لصانعي السياسة العرب، وهو انه حتى لو نجح موران وقدم كل ولائه للعرب، ترى ماذا يعني ان يصوت موران لصالح القضايا العربية طول حياته، اذا كان واحدا من اكثر من اربعمائة وخمسة وثلاثين نائبا في الكونجرس يصوتون في الاتجاه الآخر، هل نفرح بأن عضوا واحدا من مجموع اعضاء مجلس النواب يصوت للعرب؟ وماذا عن البقية، هل سيقلب صوت واحد التشريعات في النظام الديمقراطي الامريكي؟! الجالية العربية وقفت خلف موران بعد ان عادى اللوبي اليهودي وليس قبل ذلك، اي نكاية في الصهاينة، اي انه ليس مرشح العرب منذ البداية، كما انه اعتذر لليهود ألف مرة، ويحاول كسب اصواتهم، كما انه، وفي السابق، رفض دعما ماديا من الناشط الاسلامي عبد الرحمن العمودي، الذي علمنا قصته من خلال اتهامه بالضلوع في مؤامرة ضد الامير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي، واذا كان هذا نصرا يدعو الى الفخر، ترى ما رأيكم بسفير دولة عربية واحد يستطيع ان يضمن اكثر من مائة صوت بمفرده، عندما يكون الامر خاصا بمصالح دولته الوطنية؟ وما رأيكم، دام فضلكم، في ان يقف اعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب في اجتماعهم المشترك اكثر من خمس دقائق تصفيقا لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، عندما حدثهم قبل عامين؟ ماذا يعني ان يقف او يجلس جيم موران او غيره في هذا الحشد من الشيوخ والنواب، نائب واحد في الكونجرس لصالح العرب مقابل مئات لصالح اسرائيل. بالطبع لا يعني شيئا على الاطلاق الا في اذهان الواهمين من العرب. المروجون لموران، هم المتعلقون بـ«قشة» في خضم بحر متلاطم.

التحليل بالتمني فيروس خطير بدأ ينخر في الجسد السياسي العربي نتيجة لسيطرة فكر الدهماء على حساب التحليل العاقل، موران غير مهم، وفي اعتقادي ان منافسته تشيني قد تكسب الجولة ضده، كما ان بعض النشطاء من الجالية العربية والاسلامية بطريقتهم الحالية المؤيدة لافكار مشوشة، اصبحوا شبهة الآن، وليس هنا ممن يسعون لمستقبل سياسي في امريكا من يقبل الالتقاء بهم، وللقائلين بهذا الهراء اسوق قصة عبد الرحمن العمودي، فهو الآن عبرة وعظة، فهو الرجل الذي قدم الف دولار لهيلاري كلينتون اثناء ترشيحها لمجلس الشيوخ في نيويورك ورفضت دعمه، بدعوى انه مؤيد للارهاب، ويومها اتهم كثيرون من العرب السيدة كلينتون بالعنصرية، وما مضت اكثر من ثلاثة اعوام حتى رأينا العمودي قابعا خلف القضبان بتهم متعددة، بعد ان قبضت عليه الشرطة البريطانية وهو يحمل حقيبة بها 340 الف دولار نقدا اعطاها له عميل ليبي. السؤال في واشنطن هنا من هي الشخصية الاسلامية الثانية التي سيلقى القبض عليها بعد العمودي؟

النقطة الاساسية هنا هي ان كثيرا من النشطاء العرب، خصوصا الاسلاميين منهم، لا يمثلون التجمعات المسلمة في امريكا ولا حتى في واشنطن، فهم لا جذور داخلية لهم، بقدر ما لهم من علاقات خارجية مشبوهة. وكثير منهم الآن قيد التحقيق للكشف عن الشبكة الاكبر. وما العمودي الا الحلقة الضعيفة التي يظن رجال الأمن انها ستكشف عن شبكة تمويل «الارهاب» من الاراضي الامريكية.

كثير من هذه المنظمات تتلقى دعما معنويا من اصحاب المقالات في الصحف العربية واصحاب البرامج في التلفزة الأمر الذي يؤدي بدوره الى الدعم المادي من مسؤولين عرب غرر بهم، وقيل لهم ان هؤلاء سيحولون امريكا الى مجتمع اسلامي، او سيحولون الكونجرس كاملا لدعم القضايا العربية. هذا التضليل هو الذي جعل الليبيين يغدقون الاموال على العمودي، بنفس الطريقة التي اغدقت بها دول عربية كثيرة الاموال على مجموعات اخرى، وهذه درجة عالية من النصب وخداع الذات في آن واحد. اموال عربية دخلت امريكا واستغلت ضد مصالح العرب.

مهم جدا ان يعرف المواطن العربي بأن تأثير هذه المجموعات في واشنطن ضعيف للغاية ولا يذكر في القارة الامريكية الواسعة. تأثير هؤلاء موجود فقط على شاشات الفضائيات العربية واعمدة الصحف الآيديولوجية. اما نتيجة هذه الاموال الحقيقية فهي تنعكس فقط على ميزانية مطاعم واشنطن الفخمة وحاناتها، مطاعم محدودة ومعروفة على انها مطاعم «البهوات» من الناشطين العرب. ممن يقدمون أنفسهم على انهم المدافعون عن القضايا العربية في واشنطن، المدافعون عن الحق العربي الذي ينطبق عليهم قول الراحل انور السادات «مناضلي فنادق الخمسة نجوم» اما باقي الاموال الاخرى فهي القصة الرئيسية التي ستكشف عنها التحقيقات مع العمودي.

فقبل ان تهتفوا لاشياء لا تعرفونها من فضلكم، ادرسوا واقع هذه الدكاكين في واشنطن وغيرها قبل ان تقبلوا بما يروج في صحفكم من اناس غرر بهم، ضمن اكبر عملية نصب تحدث الآن في عالمنا العربي. نصب باسم الدفاع عن الاسلام، ونصب باسم الدفاع عن قضايا العرب، مشروع النصب هذا محتاج الى كشف وليس الى مزيد من التضليل والخداع، حتى يمكننا ان نبني مؤسسات حقيقية تدافع عن العرب وقضاياهم العادلة، وليس لدي شك في ان هذا المشروع سيكون مختلفا تماما عن غسيل الاموال الحادث الآن.

وما يمكن قوله حول قضية موران ينطبق ايضا على تقارير الفضائية الشهيرة. فعندما يقول مراسلوها بأن هناك ثورة في واشنطن لأن بعض الدبلوماسيين القدامى اطلقوا بيانا ضد ادارة بوش، ويخرج الموضوع عن سياقة، فنحن هنا امام حالتي التضليل والتحليل بالتمني في ذات الوقت، انا شخصيا اعرف على الاقل خمسة ممن ظهروا امام الكاميرات لالقاء هذا البيان، قلة قليلة منهم لها ثقل في المجتمع الامريكي، كثير منهم معروف خارج امريكا اكثر مما هو معروف داخلها، لذلك يكون تأثيرهم على الانتخابات هامشيا جدا.

لكن في عالم الكذب وخداع الذات وتجاهل السياق وعدم وضع الامور في نصابها، يكون «كله عند العرب صابون» فالمشاهد العربي جائع للمعلومات حول امريكا وعنها، ولان هذا الجوع شديد يقدم كثير من الصحافيين العرب في واشنطن، الى جمهورهم أي شيء يرضي رغباتهم وتمنياتهم، فلو صدقنا ما يقال عن امريكا في التلفزة العربية او في الصحف، لربما قلنا الآن بان امريكا كمجتمع وكدولة ستنهار غدا، وان العرب سيسيطرون على واشنطن، وان انقلابا وشيكا سيحدث في الكونغرس والبيت الابيض، وان ابو قتادة قد يصل الى سدة الحكم ويجلس على الكرسي في المكتب البيضاوي وينام في غرفة ابراهام لنكولن.

هذه التقارير المضللة مضرة بالعرب اولا، ولن تضر امريكا بشيء، هي فقط سترضي رغبات المرضى في العالم العربي وامنياتهم الى حين، ولكنها ستجعلهم في غفلة مما يحدث على ارض الواقع حتى تقع الواقعة او تقع الفاس في الرأس، يوم ان يترك الجنود الدفاع عن الاوطان، كما رأينا في العراق يوم سقوط نظام جيش النشامى، في معركة «الحواسم»، خصوصا بعد ان يتكشف للعرب حجم هذا الخداع، وللجانب المالي منه خصوصا، والذي بدأت رائحته تفوح في العاصمة الامريكية. وكذلك عندما يستمر مسلسل القتل البربري لمواطني دول مختلفة في بلاد العرب، ويبدو كل كلامنا وكأنه تبرير لما يحدث لا إدانة له. افيقوا يرحمكم الله.