الإصلاح السياسي وسؤال النهضة العربية

TT

ثمة حالة من التبسيط المخل الذي يصل لحد السذاجة أحيانا فيطبع الخطاب السياسي العربي حول مسألة الإصلاحات السياسية وموضعة الديمقراطية، من ذلك إرجاع كل الأخلال التي يعاني منها الوضع العربي إلى غياب الحريات السياسية والمدنية، ووجود الأنظمة السياسية المستبدة والقاهرة، ومن ثم يكفي أن تتم المسارعة بإدخال الاصلاحات السياسية المنشودة حتى تكون الأوضاع السياسية العربية بخير وعافية، ويتم التغلب على مجمل الأزمات والأعطاب التي يعاني منها العرب على امتداد عقود، إن لم نقل قرونا متتالية، وهكذا يختزل الحل في الكلمات السحرية: الديمقراطية والإصلاحات السياسية. أما القضايا الكبرى التي أرقت وما زالت تؤرق العرب على امتداد أجيالهم، واستهلكت الرصيد الأكبر من تضحياتهم واستنزفت طاقاتهم، مثل قضايا الاحتلال والهيمنة الأجنبية وحالة التشرذم السياسي والاقتصادي، فهي قضايا مغيبة من دائرة النقاش. وفي معرض الدفاع عن الأطروحة الديمقراطية كثيرا ما يتحول الأمر إلى ضرب من المحاكمة القاسية والنابية لنظام العقل العربي، أو لمنظومة القيم الثقافية والاجتماعية، فنحن مجتمعات مهزومة ومسحوقة لأننا مبتلون بخلل يطال آلية اشتغال عقولنا وأنماط تفكيرنا الممتنعة عن العقلنة والترشيد الحداثي، أو لأننا مجتمعات أبوية تنسحق فيها الذاتية الفردية الحرة تحت وطأة الجماعة والقبيلة والطائفة، وما شابه ذلك من قائمة الإدانات الطويلة، وقد يردف البعض الآخر بان اوضاعنا ميؤوس منها ولا أمل لنا في العلاج والتداوي إلا بالاحتلال الأجنبي.

وحتى لا يتهم المرء بالدفاع المجاني، أو ربما المدفوع الأجر عن مواقع الاستبداد والمستبدين، أو بالتشبث المرضي بالمحافظة الاجتماعية وقيم الماضي على حساب راهنية الزمن والتاريخ، فإننا نقول بأن هنالك حاجة ماسة ترتقي إلى مستوى الضرورات الملحة التي تدعو العرب إلى الإصلاح والتغيير، سواء فيما يتعلق بآليات إدارة الحكم وتسيير الشأن العام، أو فيما يتعلق بحياتنا السياسية والمدنية عامة (أو ما بقي من حياتنا السياسية والمدنية)، كما أن أوضاعنا الثقافية ومؤسساتنا الاجتماعية تحتاج بدورها إلى إصلاح وتصويب بما يخرجها من رتابة الجمود وآفة الاجترار القاتل للابداع، ولكن يبدو لي أنه من الاجحاف المخل اختصار المأزق الراهن الذي أرق ويؤرق العرب ـ نخبا وجماعات وشعوبا ـ على امتداد قرون متتالية في العلاج الساحر للديمقراطية، مع تجاهل كامل يقية المعضلات الكبرى التي لا تقل أهمية في حدها الأدنى عن المطلب الديمقراطي ولك أن تقول إنها لا تنفصل عنه.

وبما أننا نتعاطى مع أوضاع الاجتماع السياسي المركب والمعقد، ونتناول عوامل نهوض الأمم وأسباب سقوطها، فإن المرء يحتاج إلى التسلح بما يمكن تسميته حاسة الوعي التاريخي الثاقب مع ما يستدعيه ذلك من صرامة في التشخيص والتحليل، وتلمس سبل الإجابات المركبة والمعقدة بدل الركون إلى القراءات الانطباعية التي كثيرا ما تكون أقرب إلى المعارف الغفلية لأطفال المدارس منها إلى المعارف العلمية الرصينة.

يعاني العرب أزمة شاملة ومتعددة الوجوه والشخوص ليست الحالة الاستبدادية إلا مظهرا من مظاهرها، وعرضا من أعراضها، ولكن الأسئلة المحورية التي يحتاج كل باحث وسياسي عربي نزيه إلى المجازفة بطرحها والبحث عن إجابات مقنعة لها هي ما يلي: ما الذي يجعل من الدولة العربية المسماة تجاوزا في أدبيات بعض الكتاب المغاربيين بـ«الوطنية الحديثة»، ما الذي يجعلها عنيفة ومتجبرة؟ ما الذي يجعلها عصية على الترويض والضبط؟ ما الذي يجعلها ممانعة بشراسة بالغة لكل مشاريع الإصلاح والانفتاح؟

الجواب عندي أن هذه الدولة العربية ولدت مأزومة وواهنة منذ تكوينها، واستمرت تحمل في ذاتها عوامل الإعاقة والخلل سواء من جهة علاقتها بالجسم المحلي الأهلي، أو من جهة علاقتها بالجوار العربي، فهي دائمة التوتر والاشتباك مع مواطنيها في الداخل، ودائمة المناكفة في علاقتها بجوارها العربي، بما جعل النظام السياسي العربي تركة ثقيلة من الأعطاب وسلسلة متناسلة من التوترات والأزمات، ما أن تخمد نار من نيرانها المستعرة حتى تلتهب في موقع أخرى، أو في أوقات لاحقة، من معارك الحدود، إلى معارك المحاور العربية، إلى معارك مشاريع الإصلاح، إلى منازعات الأقطار «الصغرى» و«الكبرى»، والحبل على الجرار.

من هنا فليس من المنتظر إحداث نقلة نوعية في أوضاع العرب بمجرد إدخال بعض الاصلاحات السياسية في هذا القطر العربي أو ذاك، أو بمجرد إقامة واجهات تحديثية في بعض مناحي الحياة العامة، أو بالاقتصار على إدخال «الحكم الصالح» ومجتمع المعرفة على ما يذكرنا تقرير التنمية الإنسانية العربية، ليس من المنتظر ذلك ما لم يواجه العرب مسألة الوجود والمصير بقدر من الجرأة، وما لم تكن لديهم الشجاعة الكافية في تشخيص الأمراض والعلل التي تنهش جسمهم الكسيح، ثم البحث المبدع عن العلاج المناسب، وحتى لا نتيه هنا في دوامة التصنيفات واي الأسباب رئيسية وأيها ثانوية، فإننا نقول، إن العرب يشكون من معضلتين رئيسيتين لا تقلان خطورة وحيوية عن المطلب الديمقراطي، بل قد تكونان عند التمحيص الدقيق من الأسباب الفاعلية والمفضية لظاهرة استبداد الدولة العربية واهتزاز شرعيتها العامة، أولهما مشكلة الانقسام السياسي، ومن مظاهره البارزة والفاضحة غياب الانسجام الكافي في بنية النظام السياسي العربي، فضلا عن غياب السوق الواسعة والمفتوحة التي تتيح حركة تراكم الثروة وتنشيط رأس المال، ومن ثم فتح آفاق التطور العلمي والتصنيعي، ويمكن إرجاع هذا الخلل إلى عجز العرب عن إيجاد حل عقلاني ورشيد لمعادلة القطري والقومي الأوسع.

صحيح أن واقع الدولة القطرية، أو دولة الانقسام العربي لم يعد أمرا يسيرا القفز فوق ركامه الثقيل، فالدول لا تبني جيوشا أو تقيم حدودا فقط، بل في الغالب تبني أوهاما وأساطير حول الانتماء والهوية تساهم في صنعها معزوفات النشيد الوطني ورفرفة الأعلام، وملاحم التاريخ «الوطني» على نحو ما تبرزها أو تصطنعها مرويات المدارس ومدونات التعليم التي يختلط فيها الواقعي بالتخيلي، ولكن الصحيح أيضا أن هذه الكيانات السياسية الهشة والضعيفة اصبحت عبئا ثقيلا، حتى على نفسها ، قبل أن تصبح عبئا على غيرها، فما عادت قادرة على إطعام مواطنيها من جوع ولا تأمينهم من خوف. ولا أحد له معرفة ودراية عميقة بأوضاع الاجتماع السياسي وشروط نهوض الأمم يمكنه القول أن هذه الأوعية السياسية الخاوية ستجترح نهضة أو تقدما كيفما كان حالها، مستبدة أو ديمقراطية، ليبرالية أو قومية، أو إسلامية.

أما ثاني الأزمات العربية فتتعلق بملف السيادة والعجز عن حماية الحدود ومدافعة الطامعين. ومن الواضح في هذا الصدد أن أوضاع العرب الراهنة على ما بينهم من تنوع في المشكلات والهموم العامة، تتوزع بين الخضوع للاحتلال المباشر كما هو واقع الحال في فلسطين والعراق، وبين الوصاية العسكرية والسياسية الظاهرة والخفية بما يشبه أوضاع الانتداب في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بما جعل العرب عاجزين عن حماية حدودهم بل الاستفادة مما بين أيديهم من مقدرات وثروات ضخمة، أو الدفاع عن الحد الأدنى من مصالحهم في عالم يتجه إلى مزيد من التكتل ولا يرحم الضعفاء والقاصرين. وصحيح أن مسألة السيادة قد غدت أمرا نسبيا في عصرنا الراهن، وما عاد من الممكن الحديث عن استقلالية كاملة في القرار القومي، ولكن تبقى هناك مساحة من التمييز بين وجود السيادة وانعدامها.

في الأخير نقول إن المطلب الإصلاحي والديمقراطي يظل مطلبا مشروعا وملحا، ولكنه يظل حلا قاصرا وواهما ما لم يندرج ضمن دائرة سؤال النهضة الكبير.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية ـ جامعة وستمنستر ـ لندن