شارون يحلل الانتفاضة الفلسطينية ويعترف بتأثيراتها

TT

حين طلب أرييل شارون دورا مصريا في قطاع غزة، أوفدت مصر اللواء عزت سليمان لاستطلاع الموقف الإسرائيلي بعمق. وجه سليمان سؤالا لشارون: ما هو الدليل المقنع على أن خطتك للانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، مع بنائك للجدار الفاصل، هي خطة سياسية تأتي مقدمة للحل، وليست مجرد خطة أمنية تنتهي بابتلاع الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربية؟

كان السؤال المصري صريحا ومشروعا، وهو سؤال طبيعي في محادثات استطلاعية، ولكن المفاجأة كانت في الجواب الإسرائيلي، فقد جاء جواب شارون في صيغة تحليل للانتفاضة الفلسطينية، تقدم ربما للمرة الأولى، رؤية إسرائيل الحقيقية لطبيعة الصراع الجاري على الأرض. قال شارون، حسب رواية مصدر عربي واسع الاطلاع: عام 1973 خاضت إسرائيل حرب تشرين الأول (اكتوبر) على جبهتي سيناء والجولان. كانت حربا قاسية، استعملت فيها الطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ، وخسرت فيها إسرائيل ثلاثة آلاف جندي، وهي خسارة بشرية كبيرة. ولكن رغم ضخامة تلك الحرب، ورغم فداحة خسائرها، فقد أسفرت عن اتفاقات كامب ديفيد، وجلبت تلك الاتفاقات أمنا لإسرائيل شعر به كل مواطن إسرائيلي، كما أن فترة الحرب التي لم تتجاوز الأسابيع، لم تؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي، فحافظ على وضعه ومسيرته. ولكن.... يضيف شارون: إذا قارنا تلك الحرب الضخمة بالانتفاضة الفلسطينية وتأثيرها على إسرائيل، نجد نتائج غريبة. ففي هذه المواجهة لا توجد طائرات ولا دبابات ولا مدافع ولا صواريخ بالمعنى العسكري للقتال، ومع ذلك فإن النتائج على الأرض ملفتة للنظر ومزعجة. فالمقاتلون الفلسطينيون (وهنا استعمل شارون أوصافا من نوع : الإرهابيون والقتلة وشذاذ الآفاق)، ألحقوا بإسرائيل خسائر بشرية تجاوزت حتى الآن ألف قتيل. كما أن هذه الانتفاضة استمرت وطال أمدها، وهي تكلفنا في قطاع غزة فقط مليار و 300 مليون دولار سنويا، واستطاعت أن تحدث تأثيرات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، وانخفض نمو الاقتصاد الإسرائيلي من 6.5 % سنويا إلى ناقص نصف بالمائة سنويا، والأنكى من ذلك أن مواجهتنا للانتفاضة، وما تحدثه هذه المواجهة من خسائر بشرية في أوساط الفلسطينيين، لا تنتج التأثير النفسي الطبيعي في مثل هذه الحالات. إن الفلسطينيين لا يحترمون الحياة البشرية، ولذلك فإن سقوط قتيل لديهم لا يحدث رد الفعل الطبيعي في هذه الحالات، وبدلا من الحزن، أو الاتعاظ، نجد النسوة يخرجن ويزغردن ويهللن للشهيد، وكل ما يحدث حين يرتفع عدد القتلى في صفوفهم هو أن عدد النسوة اللواتي يزغردن يزداد ويتكاثر. إن رد فعلهم يؤجج الانتفاضة بدل أن يقمعها.

ومضى شارون في شرح تحليله للانتفاضة الفلسطينية قائلا: والأنكى من كل ذلك هو الشباب الفلسطيني الذي نراه في الجنازات الحاشدة، يرفع شارة النصر بدلا من أن يفكر بالتوقف عن قتالنا، وحين يقومون بعملية عسكرية صغيرة، أو حين يقتلون مستوطنا، أو حين يشاهدون الجنود الإسرائيليين ينسحبون من موقع ما، فإن إشارات النصر التي يرفعونها تزداد. إنهم يعتقدون أنهم قادرون على الانتصار، وإذا حدث وانسحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة ـ قال شارون ـ فإن شعورهم هذا بالانتصار سيتعاظم، وسيؤدي ذلك إلى مزيد من الاستعداد للعمل في إطار الانتفاضة. ولهذا أصبح مهما بالنسبة إلى إسرائيل، أن تنسحب من القطاع بطريقة تؤكد للمواطن الفلسطيني أنه لم ينتصر، ومن هنا تأتي أهمية بناء (الجدار الواقي)، فهذا الجدار، وبالأرض المسيطر عليها بداخله، تقدم للفلسطيني الدليل المادي على أنه لم ينتصر.

وختم شارون تحليله بالقول: لقد عانينا كثيرا من إحساس اللبنانيين بأنهم انتصروا عندما قرر جيشنا الانسحاب من جنوب لبنان، ونحن لا نريد أن يتكرر ذلك مع الفلسطينيين. ولكل هذه الأسباب تستطيع أن تنقل للمسؤولين في القاهرة، أننا جادون في خطتنا، لأنها تخدم مصالح إسرائيل.

وسواء كان شارون صادقا في النتيجة التي انتهى إليها أم لا، فإن المهم في هذه الصورة هو تحليله للانتفاضة، واعترافه بتأثيراتها الكبيرة على إسرائيل جيشا وأمنا واقتصادا، واعترافه أيضا بفشله في كسر الإرادة الفلسطينية النضالية، أو في دفعهم نحو الاستسلام له. وهذه هي المرة الأولى ربما، التي يعترف فيها مسؤول إسرائيلي، بمستوى شارون، بتأثير الانتفاضة الفلسطينية، وبفشل المخطط الإسرائيلي في مواجهتها. لقد كانت التحليلات المماثلة تأتي من صفوف المعارضة الإسرائيلية التي لا تؤمن لا بشارون ولا بحزب الليكود ولا بنهجهما، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها هذا الاعتراف على لسان شارون الذي أمن طويلا، ومارس طويلا، سياسة عنف شرسة هدفها كسر وسحق الإرادة الفلسطينية، وها هو يعترف بفشله، وأمام ضيف عربي.

ويمكن لنا القول إن هذا التحليل، وعلى لسان شارون بالذات، لعب دورا في إقناع مصر بضرورة وأهمية أن تتقدم لتلعب دورا مساعدا في ضبط الأمور في قطاع غزة بعد الانسحاب، حيث يحتاج الأمر إلى تأكيد إسرائيلي بأن المسألة ليست أمنية بل أمنية وسياسية أيضا، كما يحتاج الأمر إلى تأكيد فلسطيني بالاستعداد للتعاون مع الجهود المصرية.

إن نقطة الضعف الأساسية في هذا الوضع، هي الإصرار الإسرائيلي على تجاهل السلطة الفلسطينية، وربما السعي لإضعافها وإخراجها من المعادلة السياسية. وقد تنبه المصريون للخطر الكامن في مثل هذا التوجه، فأصروا من ناحيتهم على دور أساسي وبارز للسلطة الفلسطينية، كما عملوا من أجل ترتيب لقاء رباعي يجمع الفلسطينيين والإسرائيليين والأميركيين والمصريين، ويشكل غطاء سياسيا دوليا للعمل المطلوب، ولكن المسؤولين المصريين فوجئوا برفض إسرائيلي لفكرة اللقاء الرباعي هذا، بحجة أنهم لا يريدون دورا سياسيا للسلطة الفلسطينية، ولا يريدون بالتالي التفاوض معها، ولكن هذا الرفض نبه المصريين إلى أن شارون يتطلع إلى أن يكون للمصريين دور أمني فقط في قطاع غزة، ومن دون أي دور سياسي. وبكلمات أخرى تنبه المصريون إلى أن شارون يريد استخدامهم في إطار خطته، ويرفض أن يمارسوا دورهم حسب تصور مصري متكامل، واستنتجوا مبكرا أن وعوده ونواياه الحقيقية هي عكس ما قاله لهم.

ولكن تبلور هذا الموقف الإسرائيلي أشعل الضوء الأحمر في عواصم الغرب وبخاصة في باريس ولندن، على ما بينهما من اختلاف في المواقف، فبادرت باريس إلى إرسال وزير خارجيتها للاجتماع مع عرفات في رام الله، متحديا الرفض الإسرائيلي لمهمته هذه، كما بادرت لندن (حليفة واشنطن) إلى الإعلان عن مبادرة سياسية ستطرحها.

لم تعرف بعد بنود المبادرة البريطانية الجديدة، ولكن ما هو أهم من بنود تلك المبادرة هو خلفيتها، فالتحليل السائد في لندن أن انهيار السلطة في بغداد هو الذي أدى إلى بروز المقاومة العراقية واتساع نطاقها. وكذلك فإن انهيار السلطة الفلسطينية سيؤدي إلى استمرار واتساع نطاق الانتفاضة الفلسطينية، مع نشوء وضع لا يوجد طرف قادر على السيطرة عليه. وإذا حدث وقام اتصال ميداني عبر الأرض الأردنية بين المقاومة العراقية والانتفاضة الفلسطينية، فسيلتهب الوضع في المشرق العربي بأكمله، وسيهدد ذلك وضع قوات التحالف (الأميركية ـ البريطانية في الأساس) داخل العراق، وربما يؤدي إلى هزيمتها سياسيا.

وبسبب هذا الخوف الاستراتيجي، بادرت لندن إلى اقتراح مبادرة تعطي للسلطة الفلسطينية دورا بارزا في السيطرة على الوضع في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد، ومن خلال تعاون فلسطيني ـ مصري وثيق.

إن هذا الموقف البريطاني جدير بالمراقبة، ودوافعه التحليلية جديرة بالاهتمام، ومن أولى نتائجها، أن عاصمة اوروبية جديدة تنضم إلى باريس في رفض خطط حكومة إسرائيل وتكتيكاتها، ويسهل هذا كله بلورة موقف أوروبي أكثر فعالية مما برز حتى الآن. وثمة أمر آخر جدير بالمراقبة أيضا، وهو أن لندن تتخذ في موقف نادر، نهجا يعارض نهج إدارة الرئيس جورج بوش، فهي تدعو إلى اعتماد السلطة الفلسطينية، بينما تدعو واشنطن إلى مقاطعتها وعدم الاعتراف بها.

إنه التاريخ يعمل.... بعيدا عن الأشخاص والحكومات والاستراتيجيات التي ترسم في الغرف المغلقة، وقليلون هم الذين يجيدون قراءة التاريخ.