ليس لدى الدكتاتور من ينقذه

TT

مشهد الديكتاتور العراقي صدام حسين التكريتي، امام المحكمة التمهيدية، ملتح وغير مهندم بلا ربطة عنق حريرية، يتناقض مع رؤيتي الأولى له قبل 33 عاما. «السيد النائب» آنذاك - ظننته عضو برلمان بدلا من نائب رئيس الحزب; فقد كان نشاطي في المجال الافريقي، بينما تركزت اهتماماتي الثقافية في المسرح; وكانت تلك زيارتي الأولى لبغداد، ولم اكن اعرف عنها الكثير.

بابتسامة ساحرة، دعا «السيد النائب» الزائرين من لندن لمائدته، وهو ينفث سيجاره. أنيقا كمليونير في حلة فرنسية الصنع. هزم صدام عتاة شارع الصحافة الإنجليزي في مبارزة الكؤوس، بدعوتهم لتذوق «المشروب القومي العراقي» ـ ويسكي جوني ووكر ـ بلاك لايبل، وانتهت جلسة الساعات الثلاث بانبطاح الزائرين شبه فاقدي الوعي، وظل سيادته صامدا لم تنحرف ربطة عنقه بوصة واحدة.

تحدث بإسهاب عن فيلم فرانسيس فورد كوبولا عن المافيا «الأب الروحي»، الذي شاهده لتوه في عرض خاص، وعن مفهوم بطله مايكل كورليوني للعدالة والولاء للسلطة الأبوية الروحية.

في الجزء الثاني من الفيلم، قلب كولريوني، زعيم العصابة، والذي تقمص صدام شخصيته لعقود، الطاولة على خصومه في لجنة الكونجرس للتحقيق في جرائم المافيا. مجرد ظهور كورليوني، بسلطته البطرياركية (الأبوية) في الجلسة، ألقى بالهلع في قلب الشاهد الرئيسي الذي بنى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الادعاء حول ادلته، فغير اقواله. انهارت القضية وطالب محامي كورليوني، اثناء الهرج والمرج، باعتذار الكونجرس والتعويض لموكله، الذي تمكن، بعد اسابيع، من الاتصال بالشاهد، رغم حراسة الـ FBI، ليقنعه بالانتحار لغسل عار الخيانة بقبوله الشهادة ضد عراب العائلة.

وبعد دقائق الضعف الأولى امام المحكمة التمهيدية في بغداد، انبثقت شخصية «الأب الروحي» المافيوية، ليمسك التكريتي بزمام المبادرة، ويتحدى العالم : «.....( الرئيس الأميركي جورج) بوش هو المجرم الحقيقي »، ويضع قاضي الاتهام في موقع الدفاع.

اعطت لغة الجسد، اثناء الجلسة، انطباعا معاكسا لما اشتهاه الأميركيون، فكرر صحافيون عرب بعدها، السؤال على صحافي الـ CNN، الذي حضر الجلسة التمهيدية: «هل بدا القاضي خائفا من صدام؟».

رفع صدام يده اليسرى الى اعلى مرتين فقط كمدافع يصد اتهاما موجها اليه: «سامحنى لن اوقع اي شيء من دون حضور المحامي». واستخدم يده اليمنى عشرات المرات مهاجما موجها سبابته للقاضي، وثلاث مرات وجه الاتهام بسبابتي اليمني واليسرى في الوقت نفسه - كمن يطلق النار على الخصم. «كيف توجه الي مثل هذه التهمة ؟»، سأل صدام القاضي باستنكار عندما قرأ التهمة السابعة: غزو الكويت.

مثل كورليوني، ابرز صدام ورقة شرف العائلة; فأكثر من زعيم عراقي سابق نجح في الخروج من مأزق سياسي او اقتصادي بتعبئة الشعور القومي، بادعاء أن الكويت جزء من الأمة العراقية. صدام، الذي ارسل مرة، من منفاه في القاهرة، ببرقية تأييد لـ«الزعيم الركن» عبد الكريم قاسم - بعد ثلاثة اعوام من محاولة اغتياله - لأن الأخير هدد الكويت عسكريا بضمها للعراق، اقتفى خطوات سابقيه:«هل انت عراقي؟ كل عراقي يعرف ان الكويت جزء من العراق»، مشددا على مخارج ألفاظه، موجها الكلام للقاضي: «كرئيس للعراق، كنت ادافع عن مصالح وشرف العراقيات. هل تصدق هؤلاء... التي كانت تريد (شراء) العراقية الماجدة بعشرة دنانير؟ انا دافعت عن شرف العراقيات».

الرفض والتحدي وعدم ابداء الندم على مئات الآلاف من ضحاياه، والاستعلاء على الجيران وعلى المحكمة، التي جاءت كأول تجسيد علني لسيادة الشعب العراقي على احوال بلاده، ذكرتنا هنا، بدوافع الموقف المبدئي الذي اتخذه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، للانضمام للحملة التي خلصت العراقيين ومنطقة الخليج من مافيا صدام وتهديداته.

فصدام لا يعترف بأي قانون سوى تعريفه «لكود الشرف» المافيوي، ومن يخرج عن هذا التعريف تسقط جنسيته العراقية، مثلما حاول مع القاضي. ولا يحق للعراقي او العراقية تعريف شرفه القومي، فهذا حق العراب وحده. وهو لا يعترف بالكويت كأمة مستقلة.

ومن ليسوا «عربا» في آيديولوجية البعث العراقي، لا وجود لهم: «سمعت بهذه الأحداث في الراديو»، علق صدام على تهمة إبادة آلاف الأكراد بالغاز السام من دون ان ينطق كلمة «أكراد».

ومن العسير حاليا العثور على قضاة عراقيين مؤهلين - ناهيك من محايدين تجاه صدام وبطشه، لكن الضرورة تحتم مثول الديكتاتور امام قضاة عراقيين. فهي الخطوة الأولى لرحلة العراقيين نحو التحكم في شؤونهم وتحويل مفهوم السيادة القومية الى واقع ملموس.

وسيستغرق الادعاء ما يزيد على عام لإعداد ملف الاتهام، من ادلة جنائية معملية ومادية واستدعاء شهود، مما يعطي الفرصة لأعداد هيئة المحكمة في وقت يكون فيه قد تم انتخاب حكومة عراقية أكثر تمثيلا.

ويجب ألا يسمح القضاء العراقي لصدام بتحويل قفص الاتهام الى منبر يوجه منه خطبا تشعل حماس المغرر بهم من شباب شبوا في عهود تخريب العسكر لوزارات المعارف ومناهج التعليم، واستئصال المنطق والتفكير المستقل من عقولهم، فلم يذوقوا للمعرفة الحقيقية طعما.

فليحاكم صدام كزعيم عصابات. ففي الفترة ما بين عام 1957 و 1968 كان صدام - كجوزيف ستالين، «قبضاي» في الشوارع، وزعيم عصابات سرية يستأجر لاغتيال خصوم البعث. ارتكب جرائم قتل وتخريب، وارهاب، وابتزاز، وسطو مسلح، واختلاس، وتهريب المال والسلاح. هناك العشرات من الضحايا وأقارب الضحايا كشهود ادانة، اذا حوكم بمقتضى قانون العقوبات العراقي لعام 1968. القانون، معمول به منذ يوليو الماضي في محاكم العراق، بعد ان عدلته لجنة من المحامين العراقيين والبريطانيين; فنظفوه من وحشية النظام السابق بإزالة بند تغليب اعتراف المتهم على الأدلة المادية; وتجميد عقوبة الإعدام.

ولكثرة جرائم صدام سيطول امد المحاكمة - لسنوات - وهو ما سيساعد على اكتمال شفاء ونقاهة المجتمع العراقي، الذي مزقه حكم صدام، واستبدال الخوف في القلوب بالأمل بتقليص حجم الديكتاتور الاسطوري الى متهم ذليل في قفص الاتهام.

هناك العشرات من المحامين والقضاة العراقيين، ويمكن للمجتمع الدولي اعارة قضاة - شرط ارتدائهم روب القضاء العراقي ( قانون 1968 يسمح بذلك). وسيكون اثر المحاكمة تاريخيا في منطقة الشرق الأوسط كسابقة لمثول ديكتاتور امام محكمة تسأله عن المحن والكوارث التي انزلها بمواطنيه.

نأمل ألا يعيد العراقيون حكم الإعدام لقانون 1968. فالأمم المتحضرة تسعى للعدالة وليس للانتقام الوحشي; فالأخير وسيلة اليائسين الذين لا يرون طريقا للخلاص او أملا في المستقبل.

نتوقع من العراق الجديد الإبحار باتجاه الأمل والديمقراطية والتقدم الإنساني، وتخليص المجتمع من ظروف العنف والانتقام والسحل التي انجبت صدام.

صدام لم يولد ارهابيا متوحشا وإنما صنعته تيارات سائدة في المجتمع. قسوة زوج امه عليه كيتيم لم يعرف ابا، يضربه بوحشية ويركله من الفراش وهو طفل في السادسة لكي يشعل الموقد ويطعم الدجاجات عند الفجر; وإغاظة ابناء قرية العوجة الكبار له، حول سمعة امه وهو طفل في التاسعة، فصار لا يسير الا وبيده قضيبا من الحديد يدافع به عن «شرفها» - وتحول القضيب الى سلاح كيماوي ونار على الجيران في «عقدة» دفاعه عن شرف «الماجدة بعشرة دنانير». وعنصرية وإجرام خاله خير الله طلفاح - كأبيه الروحي ـ الذي اشركه وهو في الرابعة عشرة، في قتل خصم له، هي الظروف التي ساهمت في تحويل اليتيم صدام الى وحش، دفع العراقيون والإيرانيون والكويتيون ثمن عقده السيكولوجية.