إفهموني غلطا

TT

كم عدد الذين يقرأون لمحمد عابد الجابري أو فهمي جدعان أو محمد شحرور أو محمد أركون أو حسن حنفي....؟

لا أرقام ولا احصائيات مثبتة والمؤكد الوحيد انهم أقل (تخمينا) من ثلث مستمعي عمرو خالد والشيخين الراحل محمد متولي الشعراوي والباقي متبخترا يوسف القرضاوي وأقل (قطعا) من ربع مشاهدي نانسي عجرم وأليسا وهيفاء وهبي.

هل أريد القول مواربة ان ثقافتنا سمعية ـ بصرية وليست تدوينية كتابية؟ ليت الامر كذلك، فالصورة ثقافة العصر الجديد لكن ليست أية صورة ولا أية ثقافة ولا كل ما نراه ونسمعه له علاقة أصلا بالفكر والفن والادب الأعمدة الثلاث التي يعترف بها المثقف الجاد كمكونات للثقافة الوطنية.

و قبل ان نغوص في جد مثل الهم على القلب لكنه مثل نكد الدنيا لا مهرب منه، دعونا نعبر عن الامتنان العميق لفئة طريفة تدافع متبرعة عما لا يمكن الدفاع عنه، وحين يتم حشرها أثناء أي حوار مع الجمهور في الزاوية الصعبة ينتفض صاحبها قائلا: لا تفهموني غلطا، وفي تلك اللحظة بالذات اذا تجاهلت كلامه ونظرت الى تعابير وجهه فسوف تشاهد شخصا مختلفا كل خلجاته وحركاته تقول للمشاهدين والمستمعين: ارجوكم افهموني غلطا وأريحوني. وافهموني في مسألة غياب الثقافة الجادة كما تشاؤون بشرط ان تحضروا المعجم ـ فلا مندوحة ولا مشاحة ـ من الاعتراف بان الثقافة ودورها في العالم العربي مجرد وهم من الاوهام الكثيرة التي نتقبلها من دون مناقشة وندافع عنها وكأنها من البديهيات وننقلها من جيل الى آخر بكل حمولتها المضللة من الأكاذيب المركبة التي صارت مثل كرة الثلج تكبر وتتضخم كلما دحرجناها، لكن الجميع يعرفون انها مهما تضخمت فلن تصمد أمام لحظة شمس حارقة تعيدها الى حجمها لأصلي.

ان الثقافة الجادة لم تكن في يوم من الايام هاجسا عربيا عميقا لا يستثنى من ذلك الا القرن الثاني الهجري والقرن التاسع عشر الميلادي، حيث ظهرت مع الاستثناء الاول حركة الترجمة والتلاقح الحضاري الخلاق الذي صنع حين بدأ حوارا مثمرا مع الآخر ذروة انجازات تلك الثقافة البهية.

ومع الاستثناء الثاني ظهرت حركة التنوير العربي التي بدأت أيضا بتلاقح وترجمة ورغبة عارمة في الاحياء والتجديد.

خارج هذين الاستثناءين ـ والى حد ما عصر الموسوعات، القرن الخامس الهجري ـ لم تكن الثقافة هاجسا جماعيا ولا عاملا مساعدا على التغيير والتطوير، بل ثقافة انشاء ودواوين وخرافات وتنجيم وكتابات سلطانية ومدائح صفراء تافهة ماتت قبل ان يموت ناظموها. وخلال هذه القرون الطوال خارج تلك الاستثناءات لم يكن المثقف العربي جداليا تنويريا ولا صاحب قضية وموقف، بل شحاذ متكسب او موظف مهمل على باب الأمير والسلطان والوالي.

فالكتابة ـ والمصطلح لابن خلدون ـ آلة السلطان وكل من يمتهنها ـ المعنيان صحيحان للامتهان ـ يجب ان يضرب بسيفه ويدافع عن مصالحه التي ليست بالضرورة مصالح السواد الاعظم من الشعب الذي تقف معه كل ثقافة أصيلة. هذه الخلفيات هي التي توضح لماذا لا يوجد للمثقف العربي أي تأثير خارج الدائرة النخبوية الضيقة، وهي التي تفسر لماذا يذهب كل صراخه على الورق وعلى الهواء سدى.