رجاء أيُُّها السعوديات.... لا تُضعفن قضيتنا..!

TT

رزحت المرأة العربية قروناً عديدة تحت مركّب ثلاثي من التخلف، هو الجهل والفقر والمرض، إلى جانب نظرة الرجل الشرقي المتأخرة التي لا تجد في المرأة سوى «حُرمة»، و«عورة» في جسدها وصوتها، وبالرغم من جهودها المجازة في القيام بدورها في الحياة ـ العامة والخاصة ـ ومطالبتها بالاعتراف بحقوقها أمام المطالبين، فلا تُحاصر قيمتها ولا تبقى عنصراً لا وظيفة له سوى الإنجاب ورعاية الرجل والأطفال، إلاّ أن فرصتها في طرح مسائلها على بساط من البحث التصحيحي لم تتبلور بعد في عقلية الرجل العربي وإن ادّعى ذلك، فكما أن الأم هي الواسطة الأولى لتربية الأطفال وتقويمهم وتمدّنهم، هي أيضاً المرأة الأقدر على الجمع والموازنة بين حياتها الأسرية والعملية بدرجة قد تدهش الرجل أحياناً، وحين تكتشف المرأة في نفسها هذا الاستعداد الكبير من الصبر والتحمل والحكمة العاقلة والإحاطة بالأمور، فكل ما ترجوه أن يُفسح المجال أمامها حتى تثبت بالتجربة والبرهان أن مكانها لم يكن ليشغله غيرها، وكما قال العقاد: «لا يمكن أن يقتصر الغرض من تربية البنت على تعليمها كيف تكون زوجة، إلاّ إذا كنا نعلم الفتى في المدارس ليكون زوجاً».

غير أن التخصيص في الموضوع الأنثوي سيقودني إلى الحديث عن السعودية باعتبارها البلد الذي لا يزال يخطو في مشوار المشاركة التنموية للمرأة، فالشيء الثابت أن المرأة السعودية قد قُيض لها أن تعيش في حالة من الوهم المطمئن الذي تكفل باستبقائها في بروج منعزلة عن المجتمع وهموم دولتها إلاّ فيما ندر، في الوقت الذي ما فتئ فيه الخطاب العام يُعلن عن حقوق المرأة التي كفلها لها دينها، فإذا خطت هذه المرأة عتبة دارها خضعت لقانون مجتمعي آخر يضعها في مكانة أقل من الرجل، فاسمها لا يُذكر مجرداً أمام الناس، ومن يرافقها من الذكور يتحرج من تحديد هويتها فيشير إليها بـ «الأهل أو الجماعة»، وأغراضها لا تخرج عن الشراء لأكل أو ملبس، في علاقة طردية بين المادة والاستهلاك، إن ارتفع المستوى الأول زاد معه السقف الثاني، مع بقاء التهميش في كل الأوضاع على حاله، فالجميع قد ألف وتآلف ولا شيء يدعو لتغيير التقسيمات المقدّسة! الرجل يساوي سياسة واقتصاد واجتماع، والمرأة يقابلها زواج وطلاق، وأبناء يكملوا للصورة إطارها.

وهو تفصيل أضعف من الارتقاء بالوعي الاجتماعي والسياسي للمرأة والرجل على السواء، فحين لا يقف الانغلاق الذكوري بالنسبة للمرأة عند حدود تطبيق أسس المجتمع المدني، وإنما يمتد بقمعه وانتقاصه إلى حياتها الخاصة بتفاصيلها الصغيرة، يكون المجتمع بأكمله في غفلة تامة عن هذه الأنثى التي لو أكرمها بنتاً فكأنه يُكرم أمة بحالها، أليس في حجرها يتربي المستقبل! فكيف إذا كان هذا الحضن سقيماً عليل النفس والفؤاد والجسم، أيجوز للغد معه أن يكون عظيماً!

ونحن إذ نذكر الإكرام فلا نحدده بالاقتصادات وحدها، بل قد يوجد من النساء من لو خيّرن لفضلن التكريم المعنوي عمّا عداه، وخاصة إذا اقترن بديله بالتقييم المادي المبتذل، فالإنسان لا يحيا «بالكماليات»، فهي من اسمها تكمل الشيء ولا تبتدعه، والمرأة قبل التصنيف الجنسي هي كائن حي، لا ينبغي أن يُعامل أو يُعوَّد على اتخاذ المادة غاية، حتى لا تهبط به إلى لون من ألوان الضعة التي لا تليق بمَدْرَسَة أجيالنا الأولى، أمّا أن يُسأل الرجل أين هي المرأة في عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم من هذا المخلوق الذي يملأ حجرات الحريم، فيجيب بلهجته المتعالية : «وأين نساء اليوم من أمهات البارحة!»، فلا يترك لي من خيار أفضل من قوله عليه الصلاة والسلام : «سوّوا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضّلاً أحداً لفضلت النساء على الرجال»، فهل عدلت أيها الرجل!

إننّا نعيش في مجتمع دستوره شرع الله وسنة رسوله، وجذوره القبيلة والعشيرة والنزعة العصبية، فإذا لم تخرج المرأة إلى الحياة العامة بتفهم الرجل القريب وتشجيعه، بمساندته واستمرار وصاله المرجعي لها، فكيف لها إذن أن تُساهم في البناء! أو تشعر بما يكابده شريكها خارج الأسوار! أو تفيد بتجاربها وثقافتها الأبناء! أم يكون المطلوب أن تُدفع هذه المرأة دفعاً لخوض التحدي وحدها فتبدأ معه سلسلة تنازلاتها التي عادة ما تأتي بالغرق!

لئن تنشغل المرأة بتثقيف نفسها، وتُؤهّل لمشاركة وطنها في اقتصاده واجتماعه وسياسته لهو أضمن أمان لها، وأشرف وسام لدولتها ومجتمعها من سجنها في صندوق مكتوب عليه قابل للكسر مهما كان في الحجم كبيراً. ولئن يُفتح الصندوق بمفتاحه الصحيح، أفضل من كسره عنوة وتجريحاً.

وكما أن لم حبات السبحة وإعادة نظمها لا يقع أمره على الرجل وحده، فيلزم المرأة إذا أرادت أن تجد لنفسها دوراً في التسبيح أن تجتهد هي الأخرى في تجميع الحبات المفروطة، وهي مهمة أولى ميزاتها أن يكون المرء جديراً بها، فلو شئنا نحن النساء أن نناضل لنيل حقوقنا المدنية والسياسية المغيّب منها والمعّطل، فعلينا أن نحسن من رفقة أنفسنا، ونوطّدها بقدر الإمكان على تلمس مواطن ضعفها فنقويها، حتى نعرف متى نُقدِم ومتى نحْجم! ماذا نريد وما لا نريده! بم نثرثر وأين نصمت! كيف نأخذ القرار الصائب بدون تلكؤ، وكيف نتحمل مخرجاته! وقد عرفت طريقاً إن يسلكه سالك لا يضل معه أبداً إلا ما قدر الله ففعل، ألا وهو إعمال العقل في تقدير سريع لإيجابيات الشيء وسلبياته، فإن رجحت محاسنه كان به، وإلاّ فلا يلومنّ المرء إلاّ نفسه وهواها.

فتجشمن للمجد كل كبيرة، ولا تعشن أسيرات عاطفتكن، كما لا تبلغن من العقل مبلغاً لا تعبأن معه لقريب أو لبعيد، فالحنان سمة المرأة التي لا يجب أن تتعارض مع الشدة في موضع الحسم، أمّا من تناهى إلى علمه ما كان من قصة المذيعة السعودية بفصولها التي ترأست معها صفحات الرأي العام، وكيف تنازلت أخيرا عن حقها الخاص بعد ضرب زوجها المبرح لها، أقول لمن امتطى جواد الحكم والمتهم إن التطورات الهزيلة للأحداث لا تعبر عن مواقف جميع النساء، وما يجوز أن ترتضيه امرأة لنفسها مهما وصل بها الحال من هوان، قد لا تقبل أخرى أن تعيشه أو ترجع إليه إن فارقته، ومع ميلاد بوادر تذييل العقبات المجتمعية التي طالما وقفت عثرة أمام تقدم المرأة السعودية ورقيها الحضاري والإقرار بحقوقها، فإن العيون التقليدية التي أقسمت بعدم أهليتنا إلاّ لصغائر الهمم، إنما هي مسلطة على هفواتنا قبل انجازاتنا، فخوف أصحابها من انهيار الأنظمة الفردية الاستبدادية التي يستمدون منها قوتهم وشرعيتهم يجعلهم يستميتون في مرافعاتهم حتى لا يخسروا الرهان والقضية معاً، فلا يملّون ولا يكلّون في بعث الخوف من كل تطور يطال المرأة وكيف أنه مرادف للغرب والاستعمار وحتى الكفر، في حشد مضاد لا نواجهه نحن السعوديات باستغلال الثغرة الأضعف لدى الجهة المقابلة!

إنّ خصمنا ـ إن جاز لي التعبير ـ لا يعبأ بالوطن ومصلحته، فإذا أراد أن يمّوه شحذ سلاح الدين في وجه المعترض فأسكته. ولأن التحضير للمناظرة لم يسبقه إعداد يليق بكسب المعركة ترى المتبارية منا وقد انهزمت من أول جولة أو من الثانية على أقصى تقدير، ولا أدري كيف يكون لبنات جنسي أمضى سلاحين ـ الدين والوطن ـ فلا يعرفن كيف يستعملانهما بدقة تظهر للعالم بأسره تمكن المرأة السعودية من أدواتها! فلا يكفي أن يكون حب الوطن كلمة نلوكها، ولا يبرر لبس الحجاب قلة تفقه المرأة في دينها، ومن رام وصل الى الشمس لا يحيك طلبه بخيوط مهترئة تنقطع به عند أول عقدة، وما من شيء أحق برفعة الأوطان من رجالها ونسائها الأقوياء.