«الزرقاوي» في العراق.. بشر من لحم ودم.. وليس أسطورة..!

TT

لأن ما يقال عنه في الأردن وفي المنطقة العربية وفي كل مكان تجاوز حدود الخيال، ولأنه أصبح مضغة في فم الرئيس الاميركي جورج بوش بحيث لا يكاد يمر أسبوع واحد إلا ويتحدث عنه، ويذكره بطريقة من الطرق، لذلك لا بد من ان نسأل: هل ان «ابو مصعب الزرقاوي» مجرد أسطورة من اختراع أكثر من جهاز من أجهزة المخابرات العالمية وأكثر من تنظيم من تنظيمات الارهاب الدولي، أم ان هذا الرجل موجود بالفعل بلحمه ودمه ويقوم بالعمليات الصاخبة الدامية التي تنسب إليه ؟!

وبداية، وربما هذا غير جديد، فإن هذا الرجل، الذي أصبحت قيمته وفق آخر مزاد علني أميركي «25 مليون دولار»، موجود بالفعل وان اسمه الحقيقي هو أحمد فضيل نزال الخلايلة وهو من مواليد عام 1965 وولد لعائلة أردنية شبه بدوية في ضواحي مدينة الزرقاء، ثم انتقل مع عائلته ليقطن «حي معصوم» في هذه المدينة الى أن ذاع صيته على هذا النحو ونال كل هذه الشهرة العالمية.

و«معصوم» هذا الذي سُمي هذا الحي، الذي قطنه «أبو مصعب الزرقاوي» باسمه يتحدر من عائلة «شيشانية» قدم مؤسسوها الأوائل من القوقاز في إطار هجرات متلاحقة انطلقت في نهايات القرن التاسع عشر، من تلك المنطقة التي كانت مجالاً للصراع الحيوي والاحتكاك الدائم بين روسيا القيصرية والامبراطورية العثمانية، وتلاحقت حتى نهايات العقد الأول من القرن العشرين.

والزرقاء، التي ينتسب إليها «أبو مصعب الزرقاوي» ويقع فيها «حي معصوم» الآنف الذكر كانت حتى بدايات عقد الخمسينات من القرن الماضي قرية صغيرة تتكون من مجموعة من البيوت الطينية التي تتحلق حول قصر أثري قديم يعرف باسم «قصر شبيب»، ويقع هذا القصر على كتف مرتفع فوق نتوء صحراوي يشكل ربوة تطل من الجهة الغربية على جدول ماء، يسمى من قبيل المبالغة «نهر الزرقاء»، ينبع من مواطئ أقدام عدد من تلال العاصمة عمان، ويتسلل بعد ذلك عبر أودية أفعوانية في اتجاه الصحراء ثم ينعطف غرباً في حركة دائرية ليصب، بعد ان يمر الى الجنوب من مدينة جرش الأثرية، في نهر الاردن الذي يصب بدوره في البحر الميت، حيث المنطقة التي تعتبر الأكثر انخفاضاً عن سطح البحر في الكرة الأرضية.

ولعل ما صاغ طفولة «أبو مصعب الزرقاوي» ثم قوْلب رجولته على ما هي عليه الآن، هو ان الزرقاء التي بدأت قرية صغيرة، أصبحت بعد كارثة فلسطين الأولى في عام 1948، ثم بعد حرب يونيو (حزيران) عام 1967، مدينة مترامية الأطراف مبنية بطريقة كيفية بيوتها الطينية متراصة وشوارعها «زنقات» ضيقة، وتضم خليطاً من أناس جاءوها من كل مدن وقرى فلسطين، ومن كل مدن وقرى الأردن وبلاد الشام، بالإضافة الى أقليات جاءتها من العراق والحجاز واليمن وباكستان وبنغلادش والقوقاز ومن مصر في وقت لاحق.

في هذه المدينة، التي نمت سرطانياً بدون أي سيطرة وتخطيط، فغدت كسفينة نوح تضم أناساً من كافة الأجناس والملل والنحل، عاش «أبو مصعب الزرقاوي» طفولته وشبابه وتعرف الى زملاء «شقاوات» الطفولة، وتأثر بما كان يقال عن نكبة فلسطين الأولى، وعن كارثة يونيو (حزيران) 1967، كما تأثر بما كان يقال في مساجد هذه المدينة الصاخبة عن الغزو الشيوعي للبلد المسلم أفغانستان، ومن بين هذا الذي كان يقال خطب وتعليمات الشيخ عبد الله عزام الذي لعب الدور الرئيسي للترويج والتحشيد والتجنيد لـ«الجهاد» في أفغانستان، والذي انتهى قتيلاً بسيارة متفجرة في أحد مخيمات اللاجئين الأفغانيين في مدينة بيشاور الباكستانية.

ينتمي احمد فضيل نزال الخلايلة «أبو مصعب الزرقاوي»، في الدائرة الأضيق لهذه العشيرة «الخلايلة»، وفي الدائرة الأوسع ينتمي لقبيلة بني حسن التي تقترب مساحة أراضيها من مساحة اراض الضفة الغربية، وغالبيتها اراض زراعية خصبة، ولقد دأبت هذه القبيلة على رفد «الجيش العربي» ـ القوات المسلحة الاردنية ـ بنحو عشرين في المائة من جنوده ومنتسبيه وتعتبر الآن من القبائل الأردنية الرئيسية الموالية جداً للنظام وتتمثل في البرلمان الأردني بثمانية نواب.

هذه هي البيئة الحقيقية التي نبت فيها «أبو مصعب الزرقاوي» والذي ما أن ترك المدرسة مبكراً وترك العمل، الذي لم يمارسه في بلدية الزرقاء كموظف مياومة صغير إلا لأشهر معدودات، حتى تلقفته المجموعات التي كانت تحشد وتجند لـ«الجهاد» في أفغانستان، فذهب الى تلك البلاد التي كانت قبلة أنظار الحاقدين على مجتمعاتهم وعلى العالم، والذين أرادوا الهروب من الشعور بالغبن الى تلك البلاد البعيدة ولقد وصل إليها بينما كان الجهاد «ضد الكفر والإلحاد» قد أصبح صفحة مطوية وبينما بدأ أمراء الانتصار على الاتحاد السوفياتي، بدعم رئيسي من الغرب والولايات المتحدة، صراعاً عنيفاً انتهى بوصول الحكم الى منظمة «طالبان».

عاد «أبو مصعب الزرقاوي» الى مدينة الزرقاء في عام 1992 وأخذ يتعرف على طلائع التنظيمات المتطرفة التي بدأت تتشكل في الاردن في تلك الفترة من العائدين من «الجهاد» في أفغانستان، والذين إن لم يكونوا قد انتسبوا الى «القاعدة» بطريقة أو أخرى، فإنهم تعرفوا عليها وعلى أفكارها، وعندما عادوا الى بلادهم بدأوا بتشكيل خلايا سرية، بأسماء وعناوين متعددة.

وحسب ما بات مؤكداً فإن «الزرقاوي» كان قد غادر الاردن الى افغانستان عام 1999، بعد قضاء نحو ثمانية أعوام في السجن، من اصل حكم في قضية ما سُمي «بيعة الإمام» مدته خمسة عشر عاماً، والمؤكد انه زار مدينة «بيشاور» الباكستانية في عام 2000، وربما تسلل منها الى أفغانستان للقاء أسامة بن لادن لتلقي التعليمات منه ولترتيب وسائل وطرق الاتصال به بصورة مستمرة.

والثابت ان «الزرقاوي» انتقل في فترة لاحقة، بعد أحداث سبتمبر (أيلول) الشهيرة في واشنطن ونيويورك والحرب الأميركية على أفغانستان وإسقاط نظام طالبان وتدمير بنى «القاعدة» هناك، الى شمال العراق، وانه تردد على بغداد وأجرى فيها عملية جراحية وأنه لم يفقد أياً من ساقيه، كما يقال، وأنه ربما التقى بعض ضباط الأمن العراقيين خلال هذه الزيارة. وتقول بعض المعلومات إنه استطاع التسلل عبر الحدود العراقية ـ السورية وانتقل تسللاً أيضاً عبر الحدود السورية الى الاردن في سبتمبر (أيلول) عام 2002، وأنه أشرف على اغتيال الدبلوماسي الأميركي لورنس فولي بعد نحو أقل من شهر من دخوله الاراضي الاردنية.

ومع ان أهل «الزرقاوي» يقولون إنهم لا يعرفون عنه شيئاً منذ ان غادر مرة أخرى الى أفغانستان في عام 1999 بعد خروجه من السجن مباشرة، ومع ان هناك من يتحدث عن أنه قتل في أبريل (نيسان) عام 2003 خلال غارة على قواعد تنظيم «أنصار الاسلام» في منطقة كردستان العراقية، ومع ان زملاء له أصدروا بياناً أكدوا فيه مقتله في هذه الغارة، فهناك معلومات، يبدو أنها مؤكدة، تشير الى انه لا يزال على قيد الحياة، وأنه يسير بساقين سليمتين وبكامل لياقته البدنية، وأنه يوجد في العراق حتى الآن بصورة رئيسية، وانه يتسلل في بعض الاحيان عبر حدود بعض الدول المجاورة ليقترب من الحدود الاردنية ويشرف على تنفيذ عمليات داخل الاردن.

وهنا، وهذا هو بيت القصيد، فهل ان احمد فضيل نزال الخلايلة، المعروف بمحدودية ثقافته وبساطته، قادر على التخطيط لعمليات من نوع العمليات التي نفذت وتنفذ في العراق والتي تحتاج الى إمكانيات أمنية وعسكرية هائلة، وهي إمكانية غير متوفرة في «أبو مصعب الزرقاوي»، مع ان جميع الذين يعرفونه عن قرب يجمعون على شجاعته وإقدامه..؟!

المؤكد ان أجهزة استخبارات بعض دول المنطقة هي التي تستخدم اسمه لتنفيذ عمليات اغتيال وتدمير في العراق لا يستطيع هو بامكانياته المحدودة لا التخطيط لها ولا تنفيذها، والهدف هو إبعاد الأضواء عن نفسها ومن ثم تضليل المخابرات الأميركية والبريطانية.