طباع رجال الأركان

TT

يروي الرئيس الموريتاني السابق مختار ولد داده ان الضباط الانقلابيين الذين خلعوه ابعدوه الى قرية نائية في الصحراء. لكنهم ظلوا يأتون اليه في منفاه لكي يطلبوا مشورته في امور الدولة وادارتها. واخيرا عرضوا لديه، بكل جرأة، ان يعمل مستشاراً لديهم. لكنه رفض بالطبع ان يكون مستشاراً لدى خالعيه.

الذين ابلغوه رسالة الاقالة كانوا أقرب اركانه، وقال له ضابط من مرافقيه: «لقد سحب الجيش ثقته بك». فأجاب: «لا يستطيع الجيش ان يأخذ ما لم يعط». محمد دحلان كان اقرب الرجال الى ياسر عرفات. كان احد رجاله في غزة وكان معه في تونس وعاد معه الى الديار عندما عاد. وكان من ابرز وزرائه عندما شكل حكومته، لكن طموح دحلان لم يكن يتوقف عند «الامن الوقائي». ولذلك سرعان ما بدأ الصراع بينه وبين جبرائيل رجوب، رجل الامن الآخر. وبدا ان المسألة تتعدى الرجوب الى الحلم بالخلافة. وطرحت اوساط كثيرة رفيق عرفات السابق خلفاً له. وبدأ هو ايضاً يصنع لنفسه صورة الرجل المؤهل. واختار نقطة الضعف في عرفات لكي يدخل منها. فهو شاب وابو عمار «ختيار». وهو ابن مخيم خان يونس وابو عمار جاء من القاهرة بطريق العواصم العربية. وهو يملك مفاتيح غزة بينما مفاتيح فلسطين تتساقط من يد عرفات او تختلط اقفالها عليه. ومن اجل استكمال الصورة القيادية ركز على كنية الابوة الفلسطينية. فهو ليس محمد دحلان فحسب بل هو «ابو فادي»، او «الاخ ابو فادي» كاسم علم وليس كاسم حركي، اسوة بالأخ الاكبر.

انتقل «ابو فادي» من منزل صغير ليشتري منزل آل الشوا، احدى عائلات غزة القديمة. وكانت تلك نقطة ضعف وقع فيها كما وقع عدد غير قليل من رجال السلطة العائدين. وفقد في الدارة الكبرى شرعية ابن المخيمات القادم من خان يونس. وبعدما عزله ابو عمار في صراع واضح، استمر في بناء صورة الرجل الخلف. وقد شاهدته العام الماضي في «الكارلتون تاور» في لندن، وقيل انه جاء يمضي بعض الوقت لتعلم او لتحسين، لغته الانكليزية. فهو في الاساس خريج الجامعة الاسلامية في غزة. يريد لغة انكليزية افضل من لغة ابو عمار.

لكن المشكلة سوف تبقى واحدة، وهي من اين يأتي أي خلف بسيرة شبيهة بمسيرة ياسر عرفات في نصف القرن الماضي. لا الاخوان الجدد يملكون هذه المسيرة الطويلة ولا الرفاق المؤسسون عاشوا ما يكفي لان يصبح حجمهم التاريخي في حجمه. ومما يحزن في كل هذا المشهد ان يكون عرفات قد ترك نفسه يكابر الى هذا الحد المؤذي. لقد تحول من رمز قومي بين العرب ورمز نضالي في العالم الى رئيس سلطة صغيرة منقسمة على نفسها ومتهمة بالفساد بكل اجنحتها، وتحول الرموز من حوله من مناضلين ذوي هالة تاريخية الى نفعيين ينتزعون من رصيده كل يوم وعند كل مفترق. وصار كل شيء سياسة وبيانات. وظل وحده الاسير. حتى هذه الصفة ابقاها لنفسه دون سواه. لكن هذا الرجل التاريخي اصبح رجلا وحيداً الآن. التاريخ ايضاً في ازمة.