لنصافح ونلتصق بـ (عالم إنساني) أوسع من (العالم الإسلامي)

TT

(عالمنا الإنساني العظيم): ما أوسعه، وما أكثر الضمائر الحية النزيهة والعقول الحصيفة فيه.. وعالم هذه صفاته وخصائصه: يستوجب: اعادة تصوره ـ كما هو لا كما يشتهي المتصور ـ، واعادة تقديره وتثمينه، وتوثيق الصلة به، بصرف النظر عما يعتقده من أديان ومذاهب مختلفة، وما يموج به من ثقافات وأعراف شتى، وما يتوطنه من اماكن وبيئات.. عالم انساني حي ورحب وواعد: ليس ينبغي ان يشغلنا عن الالتصاق الدائم به، والتعرف المتجدد عليه، والتآلف الحميم معه: اولئك (المتحجرون) الذين يريدون ان يضغطونا في (جحورهم) المتناهية العتمة والضيق من امثال: غلاة المسلمين واليهود والمحافظين الجدد الذين لا يرون البشرية: الهائلة العدد، والمتنوعة المناهج والثقافات، والمتعددة البيئات إلا من خلال أيديولوجياتهم التي لا تمتد رؤيتها إلا الى مساحة شبر او اقل من ذلك.. ومثل هؤلاء كمثل أميّ في أشد القرى تخلفا: يقيس العالم كله بما في قريته من ظلام وركود واهتمامات التعصب بسبب الماعز!!.. ولئن كان العالم الانساني العظيم: حقيقة يلزم الجهر بها في كل حين من اجل ايجاد (وعي انساني كوكبي): ينقض وينفي الوعي المحدود المكدود والضيق المتحجر، فإن من ارجى واجمل مناخات الجهر بهذه الحقيقة: اتخاذ المناسبات النفسية والزمنية والموضوعية (مدخلا) لذلك. فما المناسبة النفسية والزمنية والموضوعية لترسيخ حقيقة: اننا نعيش في عالم انساني عظيم: فيه من الضمائر النزيهة، والعقول الحصيفة ما فيه؟

هما مناسبتان:

الاولى: الحكم الذي اصدرته محكمة العدل الدولية ببطلان (الجدار) الذي اقامته اسرائيل في الارض الفلسطينية المحتلة.

أما المناسبة الاخرى فهي: تأييد الجمعية العامة للامم المتحدة لقرار المحكمة الدولية.

إن في هذين الموقفين (مضامين انسانية): ليس من نزاهة الضمير، ولا رشد العقل، ولا ميزان العدل: ان توصف بأقل من (رائعة)، بل بأقل من (سامية): جد سامية.

اولا: مضمون النسبة العددية.. ففي محكمة العدل الدولية، كان هؤلاء خمسة عشر قاضيا، وقف اربعة عشر قاضيا منهم مع قرار بطلان الجدار الصهيوني (القاضي الوحيد الذي صوت ضد القرار هو القاضي الامريكي الصهيوني: بورجنتال) والمعنى الحسابي هو: ان 94 % من اصوات القضاة كانوا مع ازالة الجدار، وان الصوت النشاز لا يمثل إلا 6 % تقريبا.. والحقيقة المستخلصة من هذه النسبة العددية: ان (الصوت الانساني) النزيه كان اعلى واقوى واوسع من الصوت الايديولوجي الخفيض الضعيف المحدود.. وهذا مضمون انساني ينبغي ان يكون مصدر فخر لكل انسان بصفته: يتعزز هذا المضمون الانساني العددي: بمضمون آخر: معنوي وهو: ان هؤلاء الذين حكموا بالحق والعدل في محكمة العدل الدولية: اغلبيتهم الساحقة غير مسلمين، بل هي اغلبية تنتمي الى حضارات وأديان اخرى عديدة.. وهذا المضمون الانساني المعنوي مركوز في النظام الاساس لمحكمة العدل الدولية، اذ تنص المادة 9 من هذا النظام على انه «ينبغي للهيئة في جملتها ان يكفل تأليفها تمثيل المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم».

ثانيا: مضمون النسبة العددية في الجمعية العامة للامم المتحدة. فقد صوت لصالح قرار هدم الجدار الصهيوني ـ المقام على الارض الفلسطينية المحتلة ـ 150 دولة.. وهذا العدد الضخم من الدول يمثل اكثر من 75 % من اعضاء الجمعية العامة للامم المتحدة.. ولقد صوتت هذه الكثرة الكبرى لصالح القرار العادل بحرية واستقلال ونزاهة. فلم يضغط عليها أحد في العالم العربي الاسلامي، اذ هو عالم اضعف من ان يضغط.. ولم يغر احد: هذه الكثرة العظمى، بالمال.. فالمال العربي الاسلامي سخر ـ في مجمله ـ لغير هذه القضايا!!، ثم إن الدول التي صوتت لصالح القرار تمثل العالم كله تقريبا: بقاراته وشعوبه وأديانه وحضاراته كافة: آسيا، وافريقيا، وامريكا اللاتينية، واوروبا: الكاثوليك، والارثوذكس، والبروتستانت، والبوذيون، والهندوس، والكنفوشيوس الخ.. البيض والسود والصفر.. وهذا مضمون انساني: أوضح وأقوى من أن يماري فيه احد، وهو مضمون يقوض ـ عمليا ـ: (نظرية صراع الحضارات): المشبعة بالتعصب الايديولوجي الذي يجعل الكوكب الارضي: أضيق من أن يتسع للناس أجمعين: مسلمهم ومسيحهم.. مؤمنهم وكافرهم.. أبيضهم وأسودهم.. غنيهم وفقيرهم.. متعلمهم وجاهلهم.. وكأن الله لم يقل «والارض وضعها للانام»: اي لجميع بني آدم؟!

نعم.. من الطوباوية أو الخيال المفرط: تصور العالم في صورة ملائكية خالصة، فهو في الحقيقة لم يزل عالما بشريا، لا ملائكيا. لكن المقابل لنفي الملائكية ليس اثبات الصورة القبيحة الشريرة للعالم الانساني كله. فحين تصورت الملائكة هذه الصورة عند خلق آدم، قال الله لهم: «إني اعلم ما لا تعلمون».. ومن معاني هذا النص: ان في البشر سوءا، ولكن سيكون منهم الانبياء والمرسلون والصالحون والمصلحون والعلماء المبدعون الذين يسخرون ما خلقه الله للتسخير والنفع، وفيهم باذلو الخير والمعروف وذوو الضمائر: الذين يحبون الحق وبه يعدلون.

اننا من هذا المنبر نرفع أصواتنا بالدعوة الصريحة الى (إحياء كل ما هو انساني) في عالمنا هذا، والى اقامة العلاقات على اساسه وفي ضوئه.

وهذه الدعوة تقتضي منا نحن المسلمين:

اولا: الوصف الموضوعي الصدوق لواقع العالم الانساني. فصفة الاسلام ليست تفويضا للمسلم بأن يقول في العالم بغير علم، او ان يغمس هواه في وصفه وتصويره. بل يتعين وصف العالم كما هو ـ بالضبط ـ.. وعلى سبيل المثال وصف القرآن قوما غير مسلمين بأنهم اولو بأس شديد: «ستدعون الى قوم اولي بأس شديد». ولم يوهن من حقيقة قوتهم بحسبانهم غير مسلمين!! ووصف قوما غير مسلمين بالامانة: «ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك».. ولقد تعلم المسلم هذا المنهج الموضوعي من القرآن: مثال ذلك ان عمرو بن العاص وصف اخلاق الروم في عصره فقال: «ان فيهم لخصالا اربعا: انهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين وضعيف. وخامسة جميلة: وأمنعهم من ظلم الحكام».

ثانيا: تمثُّل قواعد اساسية في المنهج واعمالها دون ابطاء، وهي قواعد توجب العلاقة الممتازة الجميلة الدافئة مع الناس اجمعين من حيث هم (ناس).. ومن هذه القواعد:

1 ـ قاعدة (وحدة الاسرة الانسانية)..: «وهو الذي انشأكم من نفس واحدة».

2 ـ وقاعدة (الكرامة الانسانية العامة المكفولة لكل انسان) بصفته: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».

3 ـ وقاعدة (التعارف الانساني) المطلق المفتوح الدائم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

4 ـ وقاعدة (تعددية المناهج والنظم)..: «لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة».

اي (انسانية) دافئة ماتعة مستنيرة أكثر من هذه؟.. اسرة انسانية واحدة + أسرة كريمة + أسرة متعارفة + أسرة متنوعة الخيارات في الشرائع والنظم؟

ونسأل: ترليون سؤال: لماذا حشر المسلمون أنفسهم في مثل جحر الضب مع أن من أجمل مقاصد دينهم، ومن اوضح عزائمه: فتح الآفاق الانسانية أمامهم: بشرا وبيئات وثقافات. ذلك أن من المرجعيات الثقافية للمسلمين ـ مثلا ـ اعراف البيئات المختلفة، وثقافات الأمم الأخرى، والمعلومات العلمية عن الانسان والكونيات، والاجتهادات المتنوعة في المشكلات والقضايا العالمية المتعلقة بالبيئة والتجارة والامن والسلام.. ألم يحتضن نبي الاسلام ثقافة اجتماعية من فارس والروم، ويعتمد عرفا دوليا في ختم الرسائل الرسمية بخاتم؟