بعد نبيل عمرو.. من التالي؟

TT

عندما أفاق من غيبوبة التخدير، بعد العملية الجراحية التي استغرقت خمس ساعات في مستشفى الشيخ زايد في رام الله، تساءل النائب نبيل عمرو: «ليش انا». وعندما استيقظ من العملية الثانية في المستشفى في العاصمة الاردنية، طلب من ابنه، الاتصال بي في «الحياة الجديدة»، وأملى مقالته الاسبوعية قبل اوانها، حيث طلب كتابة لماذا؟ فكان مقاله كذلك على صدر الصفحة الثالثة، مع اشارة صغيرة مماثلة على الصفحة الاولى. نبيل عمرو لا يعرف الجهة التي ارسلت مطلق النار من وراء سور منزله، بينما كان يسترخي مع افراد عائلته في غرفة المعيشة، ويتابعون التلفزيون. فالفاعل كان واحدا.. هرب في حقول الزيتون في ظلمة الليل، ولم يكن يبعث رسالة تحذير.. وانما جاء في مهمة قتل، وربما لهذا عمل منفردا بعد ان رصد تحركات النائب وعرف مواعيده وفي اي الحجرات يجلس بعد عودته الى منزله. ليست هذه المرة الاولى التي يتعرض فيها عمرو لاطلاق النار، فقد سبق وتعرض منزله لإطلاق نار تحذيري اثر تصاعد الخلاف بينه وبين الرئيس ياسر عرفات، واستقالته من الوزارة، مطالبا بالتغييرات بعد الاجتياح الاسرائيلي للمدن الفلسطينية. ويبدو ان الجهة التي تقف وراء محاولة الاغتيال تقرأ خريطة الخلافات الفلسطينية بدقة، وتعمل تحت ستارها. فبعد تفجر الوضع في غزة وبقاء الضفة الغربية هادئة، ربما أراد البعض نقل التوتر الى الضفة بالنيل من احد رموز دعاة الاصلاح السياسي والتغيير في السلطة، بعد ان صار المطلب الاصلاحي على كل لسان.. وهو هدف سهل لأنه لم يشكل ميليشيا مسلحة، وهو ايضا يعتبر مغتربا في رام الله حيث ان قاعدته في منطقة الخليل، ولا يملك حراسات ملازمة له، وبالتالي فإن النيل منه يوزع الاتهامات الى جهات متعددة منها الفاسد ومنها السلطوي ومنها المناضل ومنها العميل، لعل ابرزها القيادة، الا ان عمرو، كسياسي تتلمذ على يدي ياسر عرفات، لم يؤمن بالقطيعة مع احد. ففي ذروة ازمته السابقة مع عرفات ظل على صلة معه.

وبعد استقالة الحكومة «العباسية»، اي حكومة محمود عباس، حافظ عمرو على علاقة مع عرفات، وكان يتردد عليه بين الحين والآخر، لعل آخرها، محاولته التوسط بين عرفات ومستشاره السياسي احمد عبد الرحمن، حيث اختلف الاثنان منذ فترة، وترك عبد الرحمن منصبه في مقر عرفات. لكن رغم ذلك، واصل عمرو نقد النهج السياسي في الحكم الفلسطيني، معتبرا ان الرئيس لم يعد يملك حلولا للأزمة الفلسطينية، وان كل ما يفعله هو ردود فعل او محاولات للالتفاف على الاقتراحات المعروضة عليه، كالمقترحات المصرية مثلا. وهو رأي طالما جاهر به عبر الفضائيات او في مقالاته الاسبوعية او على مسمع عرفات نفسه، لكن هذا لم يؤد الى توتر او قطيعة بينه وبين عرفات. ولم تكن علاقات عمرو مع منتقدي عرفات الآخرين على وئام، فهو مثلا يختلف مع محمد دحلان في غزة، رغم ان الرجلين كانا وزيرين في حكومة ابو مازن، ومع ذلك فخلافهما لم يفسد للود قضية. وهو ايضا لم ينسق مواقفه مع اية جهة، وان كان منسجما مع مواقف ابو مازن، وما زال يمتدح اداء حكومته القصير وانجازاتها الكثيرة. وكان من عادته التحذير من ان الضغوط ستجبر عرفات على استيلاد قيادة بديلة، بدلا من ان يبادر هو ـ اي عرفات ـ الى التغيير الداخلي من دون ضغوط، وخلق قيادة وطنية جديدة ليست مفروضة عليه.

اذن، لماذا أنا؟ هذا السؤال لن يجد اجابة فورية، فالوضع الفلسطيني المعقد يمكنه التغطية على العميل والمأجور والفاسد والمنافس، في ظل علاقات عمرو غير الودية مع بعض رجالات الحرس القديم في فتح وبعض رافعي شعار الاصلاح من الجيل الجديد، وحتى مع حكومة احمد قريع نفسها، فهو كفتحاوي، من الجيل الثالث يجد صدّا وهو يطرق ابواب اللجنة المركزية لحركة فتح، مثله مثل مروان البرغوثي ومحمد دحلان وجبريل الرجوب. ورغم ذلك فإن الآخرين لديهم مراكز نفوذ وقوة وميليشيات مسلحة، لكن عمرو لم يؤمن بالسلاح، فهو إعلامي قح لم يمسس السلاح في حياته. وكما قال لي عندما كنت ابحث عن حراس مسلحين لمقر الصحيفة، خشية تعرضها لأي اعتداء في مطلع الانتفاضة: «عشت في غابة البنادق، بيروت، ولم أحمل سلاحا طيلة تلك الفترة»، وحتى عندما خصص له مرافقون كوزير، فإنهم لم يكونوا مسلحين ابدا، بل صرفهم الى منازلهم، وان كان بوسعه ان يكون ذا سطوة عشائرية اذا اعتمد على عشيرته كثيرة العدد في بلدة «دورا» وقراها، لكنه لم يطرح نفسه عشائريا او فصائليا، اذ كان يحلو له العزف المنفرد على تقاسيم خطه السياسي، ويحاول حشد شريحة من السياسيين والمثقفين حوله، بغض النظر عن انتمائهم الفصائلي. ولهذا كان كتابا مفتوحا لا يخفي شيئا وصريحا بدرجة كبيرة، وافتتح لهذا الغرض مكتبا للاعلام الجماهيري في البيرة، وآخر في غزة، وكان يعد لافتتاح مكتب في نابلس، وهو منظمة اعلامية غير حكومية، هدفها انتاج برامج اعلامية، وأصدر نشرة باسم حوار، ولربما ظن البعض انه يؤسس لشيء ما.

كل الاحتمالات واردة في الساحة الفلسطينية، ولعل ما حدث لعمرو هو احد التفاصيل الصارخة لغياب الحوار والقانون، وتخفي كل ذي مأرب، فبدلا من السؤال لماذا، يمكن السؤال: من التالي؟ ففي مناخ كهذا يكون الحليم حيرانا.

* رئيس تحرير «الحياة الجديدة» ـ رام الله