يا مدبّر العربان

TT

يقال: «إنه انتقل مزارع اشتهر بحكمته إلى منطقة جديدة تهب عليها الرياح والأعاصير في أوقات كثيرة، ولكثرة ما أخبر عن الكوارث السابقة، بنى ملجأ حصيناً ليأوي إليه كلما عصف الهواء. وبات، إذا لاحت له بوادر عاصفة، يمضي ليلا في الملجأ، لكنه كان يخرج صباحاً فلا يجد أثراً للعاصفة، وما لبث أن ندم على إقامة الملجأ وعدّ ذلك خسارة مالية فادحة. إلا أنه برز ذات صباح من ملجئه ليجد منزله وحظيرته ركاماً بفعل الأعاصير، وإذ ذاك نظر إلى السماء وهو يقول: أخيراً جنيت فائدة من الملجأ».

الناس في هذه الدنيا أربعة أنواع، فهناك من يقيم البيت والملجأ كصاحبنا المزارع، وعندما هبت العاصفة دمرت بيته، غير أن الملجأ حمى حياته.. وهناك من بنى البيت والملجأ ولم تهب في حياته أية عاصفة ولم يدمر له أي بيت.. وهناك من بنى بيتاً من دون ملجأ فذهب عندما هبت عليه العاصفة هو وبيته ادراج الرياح.. وهناك من لم يبن لا بيتاً ولا ملجأ فظل طوال حياته شريداً طريداً كأي كلب ضال.

والأمم حالها حال الناس سواء بسواء.. فهذه دولة (كسويسرا)، جميلة، أنيقة، راقية، تتكدس في بنوكها مليارات المليارات من فلوس العالم، وتقف على الحياد التام، ولم تمسسها ولا شرارة واحدة من نيران الحرب العالمية الثانية، ولا من الحرب الباردة، ومع ذلك، ورغم هذا الأمان الضارب أطنابه على البيت السويسري، نجد أن الدولة قد حفرت ونخرت جبال الألب في أراضيها وحصنتها حتى من القنابل الذرية، وتستطيع أن تستوعب شعبها بكامله فيما لو هبت عليها عاصفة حربية وكونية غير متوقعة، ففي تلك الملاجئ متوفرة كل وسائل العيش والسكنى، وحتى معلبات الأكل والأدوية يبدلونها تلقائياً كلما انتهت صلاحيتها، وفوق ذلك ليس هناك شاب سواء ذكر أو أنثى إلا وينخرط مرغماً في دورة عسكرية تدريبية على كيفية استعمال السلاح والإنقاذ والعلاج، وبعد أن ينتهي من ذلك يذهب في حال سبيله لعمله كالساعة السويسرية.

وغير سويسرا هناك دول كثيرة قد حصنت نفسها إما بالملاجئ، أو بالعلم، أو بالصناعة، أو بالاقتصاد، أو بالتخطيط السليم وقراءة المستقبل قراءة حضارية واعية، ليس فيها أي مجاملات، أو غيبيات، أو مبالغات، أو خرافات.

قد يقيم الإنسان بيتاً ـ مهما يكن ذلك البيت ـ سواء كان قصراً، أو كوخاً، أو عشة من الصفيح، فإذا لم يحصنها بملجأ يقيها غوائل الزمن، فسوف تنهار أو تتآكل آجلاً أم عاجلاً.. والملجأ الذي أعنيه ليس شرطاً أن يكون حفرة تحت الأرض، أو (بدروما)، أو حتى برجاً عاجياً، لا أبداً، فهذه لن تجدي فتيلاً.. لأن (صدام) الذي كان أكبر من الامبراطور في العراق، وبنى عشرات القصور التي لا تهدمها القنابل، لم تحمه الحفرة التي لجأ لها كأي فأر قذر، ولم تستطع أن تحميه تلك القصور ولا المليارات، لأنه لم يحصن نفسه بالضمير، ولم يحصن دولته بالعدل، ولم يحصن شعبه بالعلم الصحيح.

إنني في هذا اليوم قد نصبت نفسي أستاذاً رغم أنفي، مع أنني احتاج فعلاً لمن يعلمني، ولمن يحصنني، فبابي مخلع، وشبابيكي ملعب للرياح، وحياتي من أولها إلى آخرها ليس لها ولا (بوليصة تأمين) واحدة.. وينطبق علي بكل جدارة المثل القائل: (يا مدبر العربان، دبر قومك).