دارفور: تجاهلوا تاريخ الإقليم.. فانقلب السحر على الساحر

TT

(الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل اخرى)، عبارة اخاذة اودعها للتاريخ القائد الالماني (كلوزفتز) الذي عاش حتى 1831 وألف كتاباً مشهوراً يوضع بقسم (الكلاسيكيات)، من المكتبات ، عنوانه (في الحرب)، والمؤلف وبالاضافة الى أنه عسكري فهو (غربي) . طبيعي ان المشاكل يجب ان تحسم على اية حال، وكذلك بدا الامر لقادة سياسيين في السودان وهم يقاربون منذ الاستقلال في العام 1956 مشكلة (دارفور). ذلك الاقليم الكبير الذي يحتل المساحة الاعظم غربي السودان ، ويواجهون واقعه المضطرب. بل ان (سلاطين باشا) النمساوي الشهير الذي جاء الى السودان في القرن التاسع عشر ليعين القس الاسكتلندي (غردون باشا) في حكم دار فور افزعته فوضى الاقليم فلم يجد بداً من تجنيد (البازنجر) ، وهي قوات قبلية لتقوم له بما يقوم به الجنجويد اليوم، واضطره اخيراً انهيار معنويات جنوده النظاميين الى ان يعلن شهادته بالاسلام ، كما نصحه (زقل) ، اخلص جنوده اليه، والذي اصبح ، أي زقل ، احد قواد المهدية فيما بعد، وتلك قصة اخرى يجدها من ارادها في كتاب «سلاطين» المعروف (السيف والنار) وهو عنوان كانت (دارفور) ضمن عناصره العامة ولا ريب.

فعلى امتداد حكوماتنا الوطنية كانت دارفور تثور معبأة بماضيها المستقل، سلطنة مسلمة في الخاصرة الغربية للمحيط السوداني المستعمر حتى العام 1916، تزهو بسلطانها (علي دينار) ، وتبعث الى قبلة المسلمين في الحجاز (بكسوة الكعبة)، وتبايع سلطان المسلمين في الاستانة، وتقف الى جانبه في حربه من الحلفاء ، وتصنف نفسها ضمن دول المحور في الحرب الاولى، وهي على مرمى المدفعية البريطانية التي تسود امبراطوريتها في الشرق الاوسط من اغادير الى فاشودة، ولا تملك مع الهوية الاسلامية لسلطانها سوى ان تناصب جارتها الامبراطورية العدوان. وغير ذلك الماضي فقد انبسطت ساحة دارفور امتداداً طبيعيا لحزام غرب افريقيا بقبائله ولهجاته وسحناته وممالكه الاسلامية في تهومي ولومي وكانم وتمبكتو، وبتراثه الافريقي وسحره وطبوله او بقرآنه وصلواته وجهاده، كما استضافت ذات الساحة هجرات القبائل العربية لبن هلبة والهبانية والسلامات والرزيقات والمعالية، وامتدادها الى كردفان ورحمها الموصول في المسيرية والحمر والهواوير والكيابيش، وفي حجرات استقرت في ساحة دارفور وما تزال تذكر اصولها وبطونها في عشائر الجبور في العراق، وآل رزيق في الواحات المصرية الغربية، وغير ذلك، وإذ حمل الاعراب معهم تقاليد البداوة وشراستها وبداوتها، جاءت (أمنا افريقية) بحضارة في الزراعة والاستقرار، وتوشك ان تكون سنة في التاريخ ان يتقاتل الزراع والرعاة كما هو قانون في علوم الاجتماع والانثربولجيا.

لكن أي وسواس خناس أوحى لساستنا ان يتصدوا لاضطرابات دارفور بحرب القبائل او حرب العصابات كما فعل سلاطين عبر مسيرتنا الوطنية منذ الاستقلال؟

ان السياسة التي لا تعرف علم الاجتماع هي بلطجة، كما يقول المفكر الاسلامي العظيم (مالك بن نبي).. وهكذا بدا التاريخ يتراكم تحت نافذة السودان المستقل منذ خمسين عاما ، ويحتشد خلف سوره المرسوم بسيطرة المركز، او بالاحرى سيطرة النخبة ، وهي رأس مشلول القدمين كما يقول (محمد المكي ابراهيم) الشاعر السوداني المغوار.

وفيما كان الجنوب بعيداً، تصدى له ساستنا بمنطق صريح (من يريد الفيدرالية فليبحث عن بلاد اخرى غير السودان) . كانت الفيدرالية (تابو) بين يدي الاستقلال ، وبدلا عن اعتمادها في اطار وطن مترامي الاطراف، اختارت الحكومات الوطنية في الخرطوم الحرب، وفي ذات الساعة التي انتفض فيها الجنوب ضد قرار الرئيس (جعفر نميري) في 1983 بتقسيمه الى ثلاثة اقاليم، كانت ثورة دارفور التي اسقطت الحاكم الذي لا يريده أبناء الاقليم تطالب بتقسيم الاقليم الى اقليميين، وفيما كان المطلب الجنوبي مفعماً بالسياسة وصراع الهوية (جنوب واحد قوي ضد الشمال) ، كانت مطالب وفد دارفور في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي شديدة الموضوعية، توافق منطق الحكم المايوي في اللامركزية، وتوافق كذلك منطق التاريخ في ان السودان لا يمكن ان يستمر موحداً إلا بمزيد من بسط السلطة والثروة، وقد وافت (ثورة الانقاذ) لحظة التراكم العظمى في المسيرة التاريخية، وكان لا مناص من فتح الابواب امام تدفق الطوفان.

ان الذي اخرج الكتاب الاسود في 1999، والذي اجرته حركة العدل والمساواة من بين فرث ودم الحركة الاسلامية، ودفعها لكتابة دستور بادئ العلمانية هو ببساطة ان ابناء غرب السودان في حركة الاسلام، لم يشاءوا ان يظلوا قاعدة لتمثال الدولة الاسلامية السودانية، ولكنهم ارادوا ان يكونوا فنانيه وملهميه، وستطول حيرة الرئيس البشير وتساؤلاته اذا لم يقرأ درس التاريخ، ويستجيب له الاستجابة الصحيحة، وستظل اسئلته بلا اجوبة وهو يقول: انا تحدثت الى كل الناس ولم اجد من يفهمني لماذا تمردت دارفور! اذا كانت دارفور قبل الانقاذ مهمشة فهي ليست مهمشة في الانقاذ. لقد حفرت الانقاذ من آبار المياه، وانشأت من المدارس اكثر مما فعلت أي حكومة اخرى.

نعم ستظل المحنة قائمة لان الاحصائيات التي يزود بها اخصائيو التضليل النظام ورئيسه ، ستظل بلا قيمة ما لم يقتنع بها انسان دارفور، وقناعته تحتاج لما هو اكبر من مجرد الارقام التي تعشقها التقارير الحكومية. ان حفر البئر وبناء المدرسة مثل بناء الجسر او ناطحة السحاب، تحقيق لفكرة هندسية هي نفسها احياء لفكرة اعلى هي الحضارة، بمنشآتها وعلاقاتها، وستظل آبار الانقاذ ومدارسها كومة تجردت من معناها الاجتماعي قبل ان يحرقها الجنجويد او المتمردون . فالنتيجة واحدة في الحالين كما هي الدلالة واحدة. ان الانقاذ ما تزال تسمع صوتها وتطرب له ، رغم ان صوتها غدا بلا اشعاع ، وقد يفصح التاريخ عن حركته بموجات صغيرة ريثما يغمر الطوفان.. وقد يكون في حالة اقليم دارفور هو الحركة المحدودة التي قادها المهندس (داود يحيى بولاد) رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في دورة 1977 ـ 1978 عن قائمة الحركة الاسلامية، بعد انضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق في 1990، ودخوله الى دارفور ليشكل ثورة الاقليم ضد حكم الانقاذ الذي تقوده ذات الحركة الاسلامية التي تربى في صفوفها.. ولكن بولاد لم يأت الى الخرطوم حتى يعرف الناس القصة الكاملة لتمرده، واختار الحاكم العسكري وقتها ان يقضي باعدامه في محاكمة ايجازية سريعة ، لان عودته للخرطوم اسيراً ستعود بالفضل لجهاز الامن الذي القى ضباطه القبض على بولاد بمساعدة الجنجويد، وكانت تلك اول مرة يتعرف فيها ضباط جهاز الامن على الجنجويد حيث الهمهم ذلك اللقاء بتحويل الشيطان الى مارد في الحرب الاخيرة، كما الهم حركة بولاد قيادات مثل قائد حركة تحرير السودان الحالي والذي كان ضمن اوائل المبايعين لتلك الحركة، وكما فاجأ اعدام بولاد الكثيرين ، فقد فاجأ ايضا البيان شديد اللهجة الذي اصدره الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة في خضم الحرب الاخيرة، ومع بدايات انذارات التدخل الدولي، وهو يصف الجنجويد بأنهم قوة مارقة خارجة على القانون، في تعبير صارخ آخر عن صراع الاجهزة في الدولة الواحدة.

وقد اعطى التاريخ فرصته الثمينة الواحدة لحكم الانقاذ، لأن تستوعب التحولات الكبرى في مسار السودان الواحد، وتمضي بتوزيع السلطة والثروة الى غاياته في سخاء تاريخي كما نص مرسومها الثاني عشر المؤقت في 1997 ، والذي استوعبه دستور 98 كاملاً. وجاء المؤتمر القومي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في 1999 ليقرر توصية هيئة الشورى في ان ينسف نظام الحكم الرئاسي، وان ينتخب والي الولاية من شعب الولاية، ولكن رئيس النظام والثلة المتأمرة معه اختارت حادثاً سيجد دلالاته عبر سنوات الفوضى التالية من حكم الانقاذ، وهو حل البرلمان في 12/12/99 ليقطع الطريق على التعديل الذي اقره عشرة آلاف مندوب للحزب الحاكم، وان للشورى في تاريخ المسلمين لعنة تماهي تماما لعنة التاريخ.

اما لحظتنا الراهنة ، فتطل علينا في صورة متحارجة شكسبيرية : نكون او لا نكون. وسيقابل ثالوث الحكومة والجنجويد والتمرد ثالوث الاعلام والمنظمات الانسانية والانظمة القومية ذات الاجندة المعلنة والخفية، الا ان فوضى المحور الاول ستسهل المهمة على المحور الثاني بقوته وعتوه وهو يحيطه بالحقائق العارية واعادة انتاجها وفقاً لاهدافه، ولن تجدي وقتها تهتهات الصبي في تصريحات وزير داخليتنا، ولا ابتسامات الاستسلام واللا مبالاة لدى وزير الخارجية المطواف. ذلك أن ما يجدي أكثر يكون كلمات امرأة بسيطة من معسكر بئيس لقناة «العربية» (نقص الدين هو الذي فعل كل هذا). الانجيل هو الذي يقول : (وطوبى لبسطاء العقول فان لهم ملكوت السموات)، وشاعر فرنسي هو الذي قال: (وعينه دائما تنادي.. مجرم عالم الكبار..).

* كاتب وسياسي سوداني