مصطلح فتى غرناطة

TT

«دويندي» ليس حزنا فحسب ولا هو الشجى والشجن كما انه ليس فقط صرخة العبقرية الجريحة حين تواجه امتحانها ومصيرها فهو ذلك كله ومعه أحاسيس انسان يقف على حافة الهاوية ليدافع عن مجد الحياة وجمالها وشبقه للاغتراف منها والسباحة طولا وعرضا في محيطاتها.

في الفارسية عندهم مصطلح قريب من الدويندي الاسباني يسمونه «الرند» ويعتصرونه عادة من اشعار المتصوفة والعشاق وتجاربهم لكن ليس عندنا بالعربية كلمة واحدة توازي «دويندي» وتعطي معناها الكامل الرحيب.

وهذا ليس عيبا في لغتنا ففي الاسبانية نفسها وهي من اللغات التي تتكئ على العربية صعوبة في فهم هذا المصطلح الدقيق وقد قام لوركا نفسه باعداد محاضرة طويلة القاها في بيونس ايريس بالارجنتين ليشرح فيها ذلك المصطلح الشفاف الرهيف الذي يلتصق بالشعر والمغنى والموسيقى اكثر من بقية الفنون.

وعلى ذمة لوركا فانه سمع عازف غيتار عجوزا يقول: ان الدويندي ليس من الحنجرة ولكنه من أخمص القدمين بل ومن الجسد كله حين ينصهر في أتون التجربة ويحاول التعبير عنها بشكل خلاق مميز.

«كل ما فيه أصوات داكنة فيه دويندي» هكذا قال مانويل توريز وبهذا التعريف اعجب لوركا الأمر الذي يجعلنا نفترض ان الشجى يظل هو الخيار الأمثل والمرادف العربي الأقرب لكن القصة لا تنتهي هنا فالأمر لا يقتصر على الموسيقى واصواتها المجردة فهناك هسيس الطبيعة وثغاء وهديل كائنات كثيرة تشارك الانسان وتصوغ مواقفه ورؤاه.

الدويندي قوة غامضة داخل كل انسان فهو في السلوك وفي الفهم وفي خزين التجارب المعتقة للعباقرة والفنانين ولنا ان نفترض بلغة تجارية لتقريب فهم هذا المصطلح الغامض الجميل ان الدويندي ماركة مسجلة للجودة العالية وللذروة التي يمكن ان تبلغها وتعبر عنها معاناة الفنان.

ومما يشجع على هذا الافتراض قول لوركا من محاضرته الأرجنتينية عن هذه الحالة: «يعرف فنانو جنوب اسبانيا العظام الغجر او الفلامنكو سواء كانوا يغنون او يرقصون او يمثلون ان أية عاطفة حقيقية غير ممكنة ما لم يكن هناك دويندي وربما خدعوا الجمهور باعطاء انطباع انهم يملكون دويندي بنفس الطريقة التي ينخدع فيها المرء كل يوم بكتاب ورسامين وموضات ادبية مزيفة».

الاصوات الداكنة في الغناء والموسيقى تغسل ادران القلب رغم حزنها وفي الشعر يحس القارئ بالشجى الأصيل وبالحزن المغتبط بذاته وهو يقاوم التلاشي على حافة العدم فالدويندي بهذا المعنى ايضا صرخة روح كونية معذبة بقلقها وطموحها رائدها الجمال وديدنها التحدي والمقاومة.

ان تلك اللحظة من الذرى المتألقة للفن تجعل الدم يغلي ويتوهج وكأنك تحرضه بزجاج مسحوق ومن آيات الفن ان تلك اللحظة المجيدة لافحة ومعدية فحين يصيح الجمهور الحقيقي «الله الله الله» تكون الرسالة الشفافة الرهيفة قد وصلت بكل حمولتها من الحس والمعنى.

في دار لوركا بئر وعدة دوال معرشة على الجدران وامام البئر قاعدة تمثال عتيق تركت عليها معجبة مجهولة قرنفلة حمراء توحي في ذلك المكان بالطراوة والعبير وجمال الخلق وبالحب المجرد من اية مصلحة أو غرض فهل يصح ان أقول نيابة عن تلك المعجبة المجهولة ان الدويندي كما فهمته في تلك اللحظة السحرية الغامضة وردة غبطة ومحبة طالعة من فوهة بركان من الألم المشترك والحنين ليس للماضي الذي يتسرب من بين الاصابع كالرمل الناعم فحسب بل لأحلام تغتسل بالضوء بانتظار تحققها عند نبع المستقبل.