رغم الأبعاد الأربعة

TT

هناك يقين أن منتصف العمر، هو ذلك الوقت المحيّر من الحياة، عندما تسمع صوتين يدعواننا: أحدهما يقول: لماذا لا تفعل؟! والآخر يقول: لماذا تزعج نفسك؟!

وأنا في يوم من الأيام وقفت في ذلك المنتصف، والعجيب غير الغريب، أنني لم آخذ لا بهذا الرأي ولا بذاك.

لقد قفزت إلى أعلى، ثم انحدرت إلى أسفل سافلين.. لم اعترف في حياتي كلها، لا في أول العمر، ولا في منتصفه، ولا في أرذله إذا بلغته بعد جهد جهيد وقريب.

إنني إنسان خلقت من «عبث مصفّى»، لا يدخلني الباطن من عقلي، لكنه يتسلّل إلى قلبي بدون أي وازع من ضمير.. انني انسان «زنبركي متحلل» ـ إذا جاز التعبيرـ فلا الأيام، ولا الليالي الحالكات، ولا حتى الضجر، أو القهر، أو زمهرير الشتاء قادرة على أن تلوي عنقي أو ذراعي، أو تفتح في جبهتي شرخاً، أو تبلل في عيني دمعاً، أو تدفق في شرياني دماً، أو توجهني مع الريح اسير مثلما تسير.. لا وألف لا ولا.. انني ثائر، ومتمرد، وعاص، ومكابر، وحرون، وقاطع طريق، وصفيق، وأكاد أحياناً أن أكون «متبجحا»، ولا أقول لئيما.

لا مفردات اللغة تسعف كلامي على الكتابة أو النطق، ولا عذابات البشر تكون كافية للاعتذار عن مأساتي، ولا أساي قادر على حمل هيكلي الآن وجثماني فيما بعد، ولا كل جحافل البشر تستطيع أن تتبع خطوات بعضها بعضا عبر تعاقب الفصول والأجيال، وما أنا إلا كبش فداء غير مقرون من ذلك القطيع الكئيب المتخاذل.

فيا الله، يا إلهي، يا أيها المعبود، يا أيها العالي، خذ بيدي، فإنها ضامرة وهزيلة جداً، رغم انني قنبلة موقوتة فسدت فاعليتها منذ زمن.

إنني بلغت منتصف العمر يا ربي ولا أريد أن أتجاوزه، وبلغت مرحلة الهلاك تقريباً ولا أهواها، وبلغت مرحلة الضنك وأحاول أن أتناساها، وبلغت مرحلة الحب العنيف وأتمنى أن استشهد على أعتابها، وبلغت خط النهاية وها انذا انكص على اعقابي راكضاً للخف، وجميع المتسابقين قادمين إلى الأمام.

فمن ذا الذي يأخذ بيدي غيرك يا الله؟! من ذا الذي ينصفني، ويعذرني، ويمسح عن جبيني التعب، وعن صدري الضيقة، من ذا الذي يسمع كلامي بيني وبين نفسي، من ذا الذي يسمع نحيبي، وصلواتي، وهمساتي، وتمتماتي، وتقلباتي في فراشي في الليالي المظلمات الحالكات غيرك أيها العالي المتعالي.

أحبك فعلاً، وأموت في كل حرف أرسلته عبر أنبيائك الأخيار، وما أنا مع كل الأجناس من البشر الصعاليك سوى عبيد نرسف في أغلالك الرحيمة.. وأنت أرحم من رحمة الأم على جنينها.. وأشهد أنه لا إله إلاّ أنت في المكان والزمان، رغم أنف «انشتاين»، ونظرية النسبيّة، وكل الأبعاد الأربعة.