حتى لا تكون مهزلة .. ما المطلوب من محاكمة صدام ؟

TT

تقول الحكاية إن الخليفة الراشد علي بن ابي طالب مر بقرية، فسأل عابر سبيل فيها عن رأيه بأهلها، فقال «إنهم قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، يؤدون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»، فقال له الخليفة «صدقت». ومر بآخر فسأله ما سأل الأول، فقال «انهم أهل فسوق ومجون، يرقصون ويغنون آناء الليل وأطراف النهار، وليس لهم من دنياهم الا المتعة والطرب». فقال له الخليفة «صدقت». فسأل واحد من مرافقي الخليفة «فكيف يا أمير المؤمنين ترى الصدق في هذين الرجلين معا». فقال الخليفة «كلاهما صادق، لأنه رأى في القرية ما يراه في نفسه».

وقال بختيار أمين وزير حقوق الإنسان العراقي لصحيفة «الغارديان» البريطانية مؤخرا «ان الرئيس العراقي المخلوع يعتني بشجيرات في حديقة السجن، ولدية مكتبة فيها الكثير من الكتب التي وفرها له الصليب الأحمر الدولي، حتى انه يكتب الشعر». في إشارة الى انه مسجون في ظروف رخاء حقيقي، زاد عليه بالقول انه يأكل طعاما غنيا بالفواكه واللحوم والحلويات.

وقال مستشار الأمن الوطني موفق الربيعي لـ«الشرق الأوسط»، بعد يومين او ثلاثة من تصريحات أمين، «ان الرئيس العراقي مسجون في مكان لا نباتات فيه، وليس لديه ما يقرأ سوى القرآن».

وأمين والربيعي وزيران في حكومة واحدة. وكلاهما صادق، إنما بفارق بسيط، هو ان الرئيس الذي يتحدثان عنه ليس مسجونا لدى أي منهما. ولربما كان الاميركيون الذين يتولون حراسته يقدمون لكل زائر من «زوار» الحكومة ما يناسبه، فيقدمون لوزير حقوق الإنسان ظروف سجن شاعرية، ويقدمون لمستشار الأمن ما يتوافق مع منصبه من عتمة وتشدد. حتى اذا ما اقتضى الأمر تعذيبا، فلا غرو ان يكون ذلك على مرأى الصليب الأحمر، بوصفه الشاهد الوحيد، المضمون صمته، والذي يرفع تقاريره الى ضباط من المضمون انهم لا يقرأون.

ولا خلاف على ان الرئيس المخلوع ارتكب من الجرائم ما يكفي لإعدامه مليون مرة، مثله مثل طغاة أحياء وأموات كثيرين (ليس أولهم الجنرال بينوشيت، الذي جاء الى السلطة في تشيلي محمولا على أكف «سي.آي.إيه»، عام 1973، وليس آخرهم جنرالات بورما وبنما والارجنتين وبوليفيا، وغيرهم الكثير).

الا ان السؤال الحقيقي ليس هو ما اذا كان يجب إعدام صدام أم ابقاؤه حيا، وانما ان يحدد المسؤولون عنه، اميركيون وعراقيون، ماذا يريدون من محاكمته.

يمكن لمحاكمة صدام ان تكون انتقاما مجردا، للتعبير عن كراهيات شخصية له ولنظامه. والانتقام والكراهية جزء من الطبيعة الإنسانية، كما انهما شغلا مثل الكثير الصفات المتدنية، حيزا مهما في «الحياة السياسية» العراقية، وكانت، على هذا الأساس، حياة قتل وسلخ وذبح واعمال تعذيب.

من المفيد، على هذا الأساس، ان يخفض المرء سقف توقعاته. لا لشيء ربما، الا لان العراقيين عراقيون في النهاية، وهم قوم ليس معروفا عنهم انهم يميلون الى فض نزاعاتهم السياسية بالتصويت في صناديق اقتراع، او انهم اذا اختلقوا لا يتضاربون بالكراسي. ومن الموضوعي القول انهم لم يبلغوا بعد من الرفعة الأخلاقية ما يكفي لان يتحول الساعون فيهم الى السلطة الى ما لم يكن مألوفا فيهم. حتى اذا ما وضع أولئك الساعون في سياق اجتماعي زادته الدكتاتورية تمزقا وحطاما أخلاقيا، وحتى اذا ما وجدوا أنفسهم محمولين على كف التناقض المفجع بين الدبابة والديمقراطية، فان سقف التوقعات يجب ان ينخفض كثيرا الى حد يجعل من المشروع تماما التساؤل: كيف لم يتم قتل صدام بعد؟ وما الحاجة الى تجشم عناء محاكمته؟

ولكن بما اننا جئنا الى هذا الحال على محمل زعم مختلف، لبناء شيء مختلف، فان السؤال: «ما هو المطلوب من محاكمة صدام»، لأن ذلك أمر مصيري بدرجة تكفي للقول انه سيقرر ليس مستقبل العراق وحده، بل ومستقبل المنطقة بأسرها. فانطلاقا من المثال المحتمل، لنزاهة العدالة وتجرد القانون، لعله سيكون ممكنا تصور ان الشجيرات التي لم تنبت في زنزانة صدام، يمكن ان تنبت في أخلاقيات طبقة سياسية، تستطيع التغلب على تفاؤل الدبابة وتشاؤم التاريخ، للقول، على الأقل، انها ليست بالضرورة طبقة فاسدة.

يمكن لمحاكمة صدام ان ترسي أساسا لبناء دولة قانون، تتحول فيها علاقات السياسة الى علاقات مؤسسية محكومة بقواعد وضوابط واخلاقيات لا تجيز، في الأقل، لأولئك الذين يتربعون على عرش السلطة ان يمارسوها جزافا، ولا ان يستغلوها لاغراض ايديولوجية، او لاغراض نفعية خاصة بهم. وتعلمهم كيف يمارسونها بتواضع شخص تخضع أفعاله للتدقيق والمراقبة والمساءلة.

كما يمكن للمحاكمة، أيضا وأيضا، ان تكون مدرسة للعراقيين أنفسهم لتعلمهم معنى احترام القانون، عندما يُثبت لهم القانون نفسه انه، بتجرده وموضوعيته، يستحق الاحترام وان مؤسسته سيدة نفسها، وانها ليست مطية لأهواء أحد.

ساعتها فقط، سيكون الحكم باعدام صدام، اعداما حقيقيا، ليس للرجل نفسه، بالمعنى الجسدي، بل لكل ما كان يمثله نظامه من تسلط ووحشية.

اعدام النظام السابق، لا اعدام صدام هو ما يجب ان يكون جوهر المحاكمة وغايتها الرئيسية. اعدام لغة القهر والعنف. اعدام للخوف. اعدام للرأي الواحد. اعدام لثقافة الحزب الواحد. اعدام لمفهوم «الرئيس القائد» و«الخالد». اعدام لسياسات التهجير والقتل الجماعي. وباختصار اعدام لكل ما كانت تمثله الديكتاتورية.

بهذه الوسيلة، وحدها، يمكن ضمان الا يتكرر ماضيها وجرائمها، وليكون في وسع المجتمع العراقي، ومجتمعات المنطقة بأسرها، ان تطوي مرة والى الأبد، انظمة التسلط والطغيان والعنف.

وهكذا، فان الفرصة التي تقدمها محاكمة صدام واركان نظامه تاريخية وحاسمة ولن تتكرر أبدا.

لا احد يستطيع ان يلوم أولئك الذين يكرهون صدام ونظامه كره العمى. الكراهية حق مشروع لكل الضحايا الذين سامهم النظام السابق سوء العذاب. ولكن الكراهية شيء، والقانون شيء آخر.

ضحايا اعمال التهجير والأسلحة الكيميائية والتعذيب والقتل والغزو قد يشفون غليلهم اذا رأوا صداما يُعدم، الا انهم لن يحصلوا على أية ضمانة بانه لن يقتحم طاغية آخر عالمهم ليكرر الجرائم نفسها.

والقانون هو السـبيل الوحيد لتوفير تلك الضمانة.

ولكن بيئة الكراهيات والاعتبارات والمنافع الشخصية التي ما تزال تحرك الكثير من الذين يمثلون أدوارا كوميدية على مسرح السياسة العراقية الراهن، لا تقدم وعدا بشيء يستحق حتى عناء الأمل. وبما ان سقف التوقعات يجب ان يظل منخفضا جدا، فان النصيحة الوحيدة التي قد يجدر الإصغاء اليها هي: اعدموه بصمت. اقتلوه تحت التعذيب وقولوا انه مات عندما سقطت الكتب على رأسه. فهذا ارحم، وقابل للتبرير، مليون مرة اكثر من ارتكاب محاكمة ـ مهزلة.

* كاتب عراقي