سباقٌ على قصر بعبدا .. أم سباقٌ على البيت الأبيض؟

TT

من يشاهد اللبنانيين على اعتاب انتخاباتهم الرئاسية يصاب بصدمة. ومن ليس عليما بالوان المشهد السياسي في لبنان يظن ان ما يجري هو سباق على البيت الابيض الامريكي لا على قصر بعبدا، وهو قصرٌ ظلت مفاتيح ابوابه وهوية ساكنيه حتى الساعة في يد الراعي الاقليمي ـ سورية ـ بالاتفاق والتنسيق مع الامريكيين كتحصيل حاصل. الادبيات السياسية بين اهل الحكم في هذا البلد وعلى مرمى اشهر معدودة من هذا الاستحقاق فيها من البدائع والغرائب ما ُيدهش ويدعو للتعجب حتى لكأنك امام جبهة قتال شرس، يُستخدم فيها اعتى انواع الاسلحة التقليدية والمحظورة بين فريقين يظنان نفسيهما اسياد قرارهما، فيما القرار في مكان آخر.... فريقُ (الممّددين والمجددين) للرئيس الحالي اميل لحود ، وفريقُ الممانعين لهذا الامر، وبينهما يتراقص اكثر من لاعب مقتربا من هذا الفريق تارة ومبتعدا عن الفريق الآخر تارة اخرى.

بين هذه الادبيات، تعابير الهجمات والهجمات المضادة، هذا اطلق الرصاصة الاولى وذاك فتح النار... وسائل اعلام هذا الفريق تتحدث عن قنابل موقوتة يخبئها هذا لذاك، فيما وسائل اعلام الفريق الآخر تتحدث عن حملات مقابلة وخطط تكتيكية واخرى استراتيجية، لفك صواعق التفجير، وافشال الكمائن ثم تطويقٌ فاطباقٌ واجهاضٌ للتمديد.

ربما ليس غريبا على اللبنانيين الحديث بهكذا لغة وهم معذورون الى حد ما بعد سبع عشرة سنة من الاقتتال العبثي. فمن الصعب عليهم نسيان مفردات الحرب الاهلية. ولا ضير اذاً من اسقاطات لها هنا وهناك حتى وان كان الاستحقاق انتخابات رئاسية. لكن المخيف في هذا الامر ان تتجاوز الادبيات هذا الحد وصولا الى التخوين والتآمر ورهن البلد والاقتصاد، وصفقات التوطين وشراء الذمم جملة ومفرقا في بلد اقل ما يقال عنه انه يضج بالمشاكل، وكل مسؤول فيه يحسب نفسه اكبر من وطن.

لا يستأهل اي استحقاق مهما علا شأنه كل هذه اللغة، بل الاولى بأهل الحكم النظر بجدية الى الصالح العام في ظل كم الازمات المتعاظمة التي يواجهها لبنان، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وهي ازمات جّرت على اللبنانيين اقسى النكبات ونفت خيرة شبابهم في اربع رياح الارض. ومع ان مربط الفرس ليس عند اللبنانيين واختيار رئيس لهم يتم بوحي في الربع ساعة الاخير، فان لكل فريق حججه ودوافعه.

فريق «المطبلين» للتمديد والتجديد يرى في رئيس الحكومة رفيق الحريري وفريق عمله، اضافة الى بعض المعارضات المسيحية، اساس البلاء وسبب الأزمة، ولا قيامة للبنان الا بتنحية هذه المجموعة جانبا، مع ان التجربة السابقة تقول عكس ذلك، اذ ان اخراج الحريري ومن معه من الحكم اوائل عهد لحود ساهم في استفحال الازمة وازدياد حدتها.

حجة هذا الفريق هي: ان لحود يحظى دون غيره بدعم لا محدود من قبل سورية، وسورية (بيضة القبان) في كل الاستحقاقات اللبنانية، وطالما انها تدعم لحود فكل الاصوات المعترضة مجرد اصوات في فراغ. ويرى هؤلاء في مواقف لحود الوطنية والقومية خصوصا ازاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي ومقاومة حزب الله، اضافة الى العلاقات المميزة مع سورية اكبر رصيد له للعودة الى سدة الرئاسة، ويرّوج هذا الفريق على الدوام وفي كل محفلٍ مقولة ان السياسات الاقتصادية والمالية للحريري اغرقت الدولة في دوامة الدين العام وخدمته اللامتناهية، وادخلت المالية العامة في حلقة مفرغة، مما ادى الى تفاقم الازمة اقتصاديا واجتماعيا، حيث قارب حجم الدين العام لبلد صغير كلبنان حدود الاربعين مليار دولار ولا ُيعرف كيف سيتم تسديدها. الامر لا يقتصر عند هذا الحد، بل انك تجد لدى هذا الفريق كثيرا من التلميحات غير البريئة مفادها ان تأزيم الوضع الاقتصادي مقصود لجعل موقف بيروت ضعيفا جدا في حال جرت المساومة على ملف توطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل مساعدات مالية للبنان وشطب جزء من دينه العام للدول المانحة. فريق المعارضين للتمديد والتجديد للحود يرى ان هذه المسألة لو تمت فانها سُتمّثل طامة كبرى على لبنان، اذ ان التمديد او التجديد يعني تمديد وتجديد الازمة بكل مستوياتها السياسية الاقتصادية والاجتماعية. ويراهن هؤلاء على ان مفتاح التغيير يمر عبر قصر بعبدا من خلال ضخ دم جديد فيه، وعدم التمديد او التجديد للرئيس لحود الذي وحسب هؤلاء اعاق خطط رئيس الحكومة رفيق الحريري لاصلاح الاوضاع المالية والاقتصادية.

واذا كان حزب الله وبعض القوى الوطنية والاسلامية اللبنانية المحسوبة على سورية تمثل رافعة للرئيس لحود في مشروع التمديد او التجديد له، فانه وعلى الطرف المقابل ثمة قوى مسيحية معارضة لا يستهان بها كقرنة شهوان والتيار العوني والاحرار والقوات اللبنانية وغيرها، تتقاطع مصالحها مع رئيس الحكومة في الاستحقاق الرئاسي المقبل لناحية الرفض المطلق للتمديد والتجديد.

ثمة قوى اخرى ُتؤثِر الانتظار والترقب قبل اتخاذ اي موقف من هذا الاستحقاق كرئيس مجلس النواب نبيه بري على سبيل المثال، وهذه القوى تحاول جاهدة قراءة اللحظة الاقليمية لمعرفة اتجاه رياح التغيير، وبما ان الصورة ضبابية حتى الساعة تفضل هذه القوى التريث وعدم الانزلاق الى اي موقف قد تبدله الساعات الاخيرة.

التراشق والحروب الكلامية مستمر بين كل هذه القوى، وكلٌ يحاول شد البساط لناحيته الا ان الطريق الى بعبدا وكما بات معروفا تمر عبر دمشق التي كانت قد المحت ان لها عدة خيارات في لبنان، الامر الذي ُفهم حينها ان لحود ليس مرشحها الوحيد، بل ان هنالك شخصيات لبنانية تتمتع بكثير من الخصال لتولي منصب الرئاسة وتحظى بدعم سوري. موقف دمشق هذا ان عنى شيئا (وهو يعني الكثير) يشير الى ان

تظهير صورة الرئيس المقبل للبنان لم تتوضح هي الاخرى حتى بالنسبة الى دمشق، وذلك انتظارا لموقف لاعب سياسي اكبر(واشنطن) سيكون له الرأي الراجح على ما يبدو بفعل المتغيرات المتسارعة في المنطقة بعد غزو العراق. لقد بدا واضحا في الاسابيع الاخيرة وبشكل جلي ان واشنطن لن تترك لسورية امر اختيار رئيس للبنان، ويُستشف هذا من سيل الضغوط التي تمارسها واشنطن على سورية، اذ حرصت واشنطن على ان يُعلن قادة الدول الصناعية الكبرى في اجتماعهم الاخير بسي آيلند ضرورة تأمين انتخابات رئاسية لبنانية نزيهة وديمقراطية بعيدا عن اي تأثير سوري. كما ان سورية تواجه جملة تحديات تجعل حضورها في الاستحقاق اللبناني اقل وقعا من ذي قبل، بدءا بالتواجد الامريكي الكثيف على حدودها الشرقية، مرورا بقانون محاسبة سورية ومطالبتها الخروج من لبنان، وصولا الى فتح ملف اسلحة الدمار الشامل لديها. لا يجتمع اثنان في لبنان في هذه الاوقات الا ويكون الاستحقاق الرئاسي ثالثهما. فمن يكون سيد قصر بعبدا المقبل؟ سؤال ستظل الاجابة عليه كما يقول العارفون غير معروفة حتى ربع الساعة الاخير.... ومن الآن وحتى ذلك الحين يستمر اهل الحكم في لبنان بالتراشق الكلامي والاشتباكات السياسية تقطيعا للوقت لا اكثر ولا اقل.

* إعلامي عربي