جسر انهار بموت رجل

TT

قبل أيام قليلة فقدت صديقا وزميلا، هو دومينيك سمبسون ، الذي كان في التاسعة والثلاثين ، ترك خلفه زوجة مكلومة وطفلين صغيرين. ووصل إلى القمة في مهنته. وكصديق وزميل، لم تصب سمعته المهنية ولا طاقته على التعاطف، بأي خدش.

دومينيك، الذي كان يحب العرب ويحمل لهم مشاعر خاصة ، عبر عنها في مقاله الوحيد الذي نشره في جريدة «الشرق الاوسط» بعنوان « بعد 15 عاما من معايشة جدة.. ملامح الخطر الجديد» بتاريخ 2 يوليو (تموز) الماضي.

في هذا المقال كشف بوضوح عن مدى ما يكنه من مودة ويملكه من ذكريات خاصة عن العرب.. ومما قاله في مقاله متحدثا عن فترة حرب الخليج الثانية «كانت جدة بالنسبة لي، قبل الحرب وبعدها، واحة ظليلة، وبقعة تهب فيها النسائم الرقيقة، وتدور فيها الأحاديث المثقفة. وكلما دارت بي الطائرة حول المدينة متأهبة للهبوط.. وكلما وصلت سيارتي إلى الشارع الذي يقودني إلى داخل المدينة، كانت معنوياتي ترتفع بصورة ملحوظة»

وقبل أيام قليلة من موته الفجائي، اتصل بي ليدعوني إلى مناسبة خيرية تقام في فندق دورشستر، لصالح أطفال العراق. ولم أتمكن من الذهاب، لكننا التقينا قبل يوم من المناسبة، لتبادل الأخبار حول الشرق الأوسط. وكان دومينيك سيبمسون قد التحق بوزارة الخارجية بعد نيله درجة الشرف العليا في التاريخ عام 1985. وقد بُعث إلى القاهرة لتعلم العربية فأجادها.

إن ما كان يميز دومينيك، هو حسه الراقي بالعدالة، واهتماماته الاجتماعية. وكان يتمتع بتفهم عميق لثقافتنا وتقاليدنا. وتنامى حبه للعالم العربي، فخلق صداقات عديدة وحميمة. كما أن نظرته العميقة لتعقيدات العلاقة بين الشرق والغرب، زودته بإدراك استثنائي للظلال الدقيقة والفروق والصعوبات. وكان يهتم اهتماما غير عادي بالقضية الفلسطينية، وكان يدعو في جلساته الخاصة ومخاطباته العامة إلى قيام دولة فلسطينية. وقد قال في ذلك:

«إن العدل الطبيعي لا يتحقق بأقل من ذلك. ولكن فكرة أن هذا سيكون بمثابة العصا السحرية التي تحل مشاكل الشرق الأوسط والغرب حلا ناجعا، ليست سوى وهم. فالجرح الذي يظل مغطى دائما لا يندمل، وقد بقيت جراح المنطقة مغطاة لزمن طويل جدا».

فلسطين وحدها لا يمكن ان تصبح العلاج. إذ ينبغي على المجتمعات العربية بصورة عامة، ان تلتفت الى نفسها، ليس ببساطة في سياق وجود ميثاق بين الحكام والمحكومين، وليس بسبب وجود أجندة لدى الرئيس جورج بوش، ولكن لأن تحرير العالم العربي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا يتطلب ذلك.

مات دومينيك سبمسون من دون ان يكمل العمل الذي بدأه. فقد نذر حياته للعمل من اجل بناء المزيد من جسور التواصل بين العرب والغرب. هذه بالطبع ليست مهمة سهلة، وأتمنى ان يستلهم آخرون نموذج دومينيك وتجربته وجهوده في إنشاء علاقات تفاهم افضل بين الشرق الأوسط والغرب. فنحن في حاجة الى اشخاص مثله، يعتقدون تماما بأن العالم يمكن ان يكون مكانا افضل بالمزيد من التفاهم.

الموت المفاجئ لدومينيك اصاب اسرته وزملاءه وأصدقاءه الكثيرين بالصدمة، فهؤلاء خبروا جيدا جهوده المتواصلة من دون كلل او ملل، في اتجاه التوصل الى فهم افضل بين العرب والغرب. ليس ثمة شك في ان موت دومينيك يمثل فقدا مأساويا للحريصين على تفهم اوروبي افضل للقضايا العربية.