قراصنة أصيلة ومثقفوها

TT

شرائح عريضة من أهل الفكر والفن والأدب صارت مثل نوارس المحيط لا بد ان ترفرف كل عام في وقت معلوم حول بلدة مغربية كانت ملجأ للقراصنة القُدامى فصارت عشا للمثقفين المعاصرين ولا فرق بين هؤلاء الأخيرين وقراصنة الزمن الغابر، فهم ورغم انهم لا يضعون العصابات الحمراء على رؤوسهم ولا يستخدمون الخناجر والخطاطيف إلا ان فيهم كل شوق القراصنة للسبي والخراب والمغامرة في المجهول.

«لن تعمر ما لم تدمر» هكذا يقتنع بعض من يؤم أصيلة من خيرة المثقفين العرب والأجانب، وهكذا هي الحياة في ذهن كل معماري أصيل، فقبل البناء لا بد ان تنقي المشهد وتنظفه وتقيم أساساته على صخر راسخ متين ثم يأتي دور العمارة التي تختلف قطعا عن الترميم والترقيع والتجبير.

لقد فشل معمارنا الحضاري المعاصر على أكثر من صعيد لأننا نرقع أكثر مما نجدد واذا سألتني كيف نجحت أصيلة ولماذا؟ أقول من دون تردد: انها نجحت لأن خلف مشروعها الحضاري الرائد معماريا حذقا وصاحب رؤية، فحين كانت ثقافة البيئة قليلة الحضور حتى عند الغربيين رفع محمد بن عيسى ومحمد المويلحي منذ السبعينات شعار الثقافة في خدمة البيئة فنشأت جمعية المحيط وجامعة المعتمد بن عباد الصيفية، وصارت تلك البلدة التي لا تكاد تراها على الخارطة محجا لكبار الشعراء والموسيقيين والروائيين والرسامين العرب والعالميين.

في أصيلة، ومع اختلاف المواسم والموضوعات كنت ترى البياتي وسنغور والطيب صالح وإدوار مونيه وأدونيس وتشيكايا اوتامسي وبلند الحيدري ولطفي الخولي وأحمد عبد المعطي حجازي وأميل حبيبي مع مدير مسرح غلوب البريطاني وكبير محرري «نيويورك تايمز» الأميركية ورئيس البرتغال السابق الى جانب عمرو موسى وكوفي أنان.

ومع دخول السينما الى المشهد الأصيلي المزدحم بالفنون والندوات والافكار، عرفت البلدة عن قرب نور الشريف وحسين فهمي وعزت العلايلي وليلى علوي ومحمود ياسين ويوسف شاهين وإيناس الدغيدي وفردوس عبد الحميد.

وكشهادة متفرج عن قرب ومشارك في الحضور والغياب لا بد من الإقرار بأن الأسماء الكبيرة ونجوم الفن والأدب والرسم والسياسة لم تطغ أبدا على الفكرة والموضوع، فدوما كانت هناك وقبل النجومية موضوعات حيوية في السياسة والثقافة والفكر وخدمة البيئة والحوار مع الآخر ونشوة الكتابة والخيال والموسيقى وعلاقة العرب الملتبسة بالأميركيين وغيرهم من الأمم والشعوب.

صحيح ان الحوار مع الأميركيين طغى على الحوار مع سواهم لكنه العصر الأميركي الذي ما الى تحاشيه سبيل، لذا كان مهرجان أصيلة أول مؤسسة عربية تتبنى فكرة قيام معهد عربي للدراسات الأميركية يمكّننا من فهم هؤلاء القوم عن قرب، فمعركة العرب مع الصهاينة يتم كسب نصفها هناك حيث رأس الأفعى لا في تل أبيب حيث الذيل الهزيل.

ومع ذاك المعهد، جاءت مكتبة عصرية وأرشيف كامل للفنون البصرية وجائزتان للشعر العربي والأفريقي وثالثة للرواية وقاعات مسرح وسينما وغاليريهات.. فالنجاح اولا وأخيرا تراكم خبرات وأفكار وانجازات أتت لا بجهد شخص واحد بل بتعاون بلدة بكاملها مع مشروع حضاري خلاق غيّر وجه الحياة نحو الأفضل في قرية مغربية حلمت وعملت ونجحت في تحقيق أحلامها، معتمدة على جرأة المبادرة وعمق الإيمان بالانسان.