دعونا نبدأ ولو بنصف ديمقراطية !

TT

تأجل المؤتمر الوطني العراقي بسبب ظروف داخلية وفنية ، واظهر التأجيل بأنه جاء بطلب من الامم المتحدة ، وهذا يضفي قدراً معقولاً من الشرعية على المؤتمر ، باظهاره أنه يجري تحت اشراف واشتراك فعال بالمشاورات من قبل الهيئة الدولية ، وما تمثله من مرجعية وحيادية مطلوبة داخلياً وخارجياً ، ويدلل على حرصها على انجاحه ، ولذا طلبت التأجيل ، حتى ان جمال بن عمر مساعد الابراهيمي اراد ان يكون له متسع من الوقت لاقناع من رفضوا دعوات الترشيح لتغيير موقفهم.

الا ان بعض القوى السياسية الفاعلة ، والتي ضمنت فضاءات واسعة في المجلس ، انتقدت التأجيل باعتبار ان هذا الدور الاممي يضعف الجهود التي تحاول اظهار العراقيين يديرون شؤونهم ، وان ذلك يأتي امتداداً لدور الابراهيمي واتصالاته مع بعض الفعاليات. ولكن ، مع هذا النقد ، الذي بدا مريراً ، فإن نجاح الابراهيمي عبر ممثله في توسيع المشاركة لكي تشمل اغلب الطيف السياسي ، سيخدم العملية الديمقراطية الجنينية في العراق حتى وان لم يبرئه منتقدوه من الاغراض.

هذا المجلس الذي يفترض ان يضم1000 شخص ، سيتم انتخاب مئة شخص من بينهم لكي يشكلوا المجلس الوطني المؤقت ، وفيه عشرون مقعدا تم حجزها مسبقاً لاعضاء مجلس الحكم ممن لم يحصلوا على مناصب تنفيذية.

ومن الملاحظ ان العملية السياسية في شقها الانتخابي تأخرت في العراق بسبب تعذر اجراء الانتخابات ، نسبة للمشكل الامني ، ولظروف فنية تخص عدم وجود احصاءات يمكن اعتمادها لقوائم الناخبين ، فضلاً عن توفير القوانين المنظمة للانتخابات ، بجانب الحاجة لسقف زمني للاعداد لانتخاب يمتلك حداً معقولاً من الشفافية والمقبولية.

وقبل ذلك هناك مراهنة على الزمن بين القوى الاسلامية والولايات المتحدة، اذ دعت هذه القوى ، ودفعت الى اجراء انتخابات مبكرة ، بحسابات تعتبر نفسها فيها الاكثر تنظيماً ومقدرةً على الحراك في غياب احزاب فعالة بسبب من سياسات النظام السابق التي افرغت البلد من اي اطر سياسية او مؤسسات مجتمع مدني. ولذا ظلت الاحزاب والتجمعات الاسلامية هي الاكثر تأثيراً ، اذ هي تختلط بولاءات المسلمين التقليدية والطبيعية ، وتحاول ان تستثمرها سياسياً ، في حين ان الولايات المتحدة سيكون من اسوأ كوابيسها انها قطعت آلاف الكيلومترات مع كلف مادية وبشرية ، وخصام مع نصف حلفائها ، لكي تثمر جهودها على الاتيان بقوى اصولية لحكم العراق ، ولذا فهي تراهن على الزمن ، ودفع الانتخابات العامة الى نهاية عام2005 ، مع الوعد والعمل على جلب الرفاه الى المواطن العادي ، بحساب تراه يتكفل بدفع اختيار الاسلاميين الى مؤخرة اهتمامات الناخب في العراق.

لذا كانت صيغة هذا المؤتمر ان يكون المجلس معيناً ، وليس منتخباً بانتخابات عامة ، أي في منزلة بين المنزلتين. واذا كانت سلبية الاختيار انه لا يعبر عن الارادة الشعبية ، فلنستفد من ايجابيته ، باعتباره سيفضي الى جلب الاشخاص المشهود لهم بالكفاءة والتفوق في اختصاصاتهم ومجالات عملهم ، والحرصً والقدرة على الخدمة. وهذا ما اخذت به بعض الدول التي تأخذ بنظام المجلسين ، أي ان يضم المجلس الاعلى اناساً من هذا النوع ممن لم يتح لهم عملهم وانصرافهم وانشغالهم ان يكونوا وجوهاً شعبوية من الممكن لها ان تفوز في الانتخابات. وقد غابت هذه الملاحظة عن اعين منظمي المؤتمر ، وعن حجج منتقديه الذين انصبت وتوزعت انتقاداتهم على اسباب موضوعية وذاتية وايديولوجية.

وهناك المآخذ التي تتركز في ان الدعوات اقصت البعض حيث استبعدت 80 حزباً من المشاركة بحجة انها غير معروفة الاهداف والمناهج وقواعدها الجماهيرية ضيقة ، فيما ودعت 50 حزباً ، فضلاً عن الانتقائية في الدعوات ، وسيطرة الاحزاب الكبيرة مع آلية مبهمة في الاختيار ، وسقف زمني ضيق ، وتوضيح اعلامي محدود ، بجانب ما رافق بعض المؤتمرات الفرعية من ضغوطات على المرشحين واقصاء لبعضهم الاخر.

ولكن كل هذا لم يمنع من تزايد نمو المشهد السياسي العراقي ، اذ انه وفي مدينة كربلاء ، ولاختيارنا هنا دلالة ، انعقد مؤتمرها بـ193 مرشحاً من الرجال و160 مرشحة من النساء ، ففي هذه المدينة الدينية المتشددة، والتي يفترض انها ذات ارث ثقيل وتقاليد موروثه ، وقرون من الحجر تحد من مشاركة المرأة ، لكنها انطلقت ولم تنتظر ان يجري سجال فقهي حول شرعية مشاركتها في العمل السياسي.

ومن الملاحظات الموضوعية الواضحة ان المؤتمر يجيء بعد تشكيل الحكومة ، وبعد اصدار قانون ادارة الدولة، وهذا لا يتفق مع الديمقراطية ، ولكنه ينسجم مع التقليد العربي الذي يأتي دائماً متاخرا خطوة. وهنا لا يمكن ان نفترض البراءة في القائمين على هذا الترتيب المعكوس، فضلاً عن أن الصلاحيات التي انيطت بالمجلس الوطني ستبقى محدودة ، وهي ايضاً منزلة بين المنزلتين ، أي بين التشريع والاستشارة. اذ ان واجباته ستكون مراقبة عمل الحكومة ، لكنها لن تصل الى اقالتها. هذا بالطبع بالاضافة الى اقرار الميزانية والاعداد للانتخابات في مطلع العام القادم.

اما القوى والفعاليات التي قاطعت المجلس ، فهناك تيار مقتدى الصدر الذي اعترض على آليات واجواء المؤتمر ، وكذلك على نسبة تمثيله التي رأى انها لا تتناسب مع سعته ، وكان قد رفض المشاركة في العملية السياسية لاعتراضه بأنها تجري في ظل الاحتلال ، وقد بقي خطاب هذا التيار متصدياً ومواجهاً ولم يبلور رؤى وبرامج سياسية ذات بعد اجتماعي. وهناك هيئة العلماء المسلمين وبعض الشخصيات القومية والتي رفضت منذ البدء الاشتراك في العملية السياسية ، كونها تجري بوجود الاجنبي ، وربما يمتد هذا الرفض حتى الانتخابات القادمة.

لذا فإن فترة الاسبوعين ، من شأنها ان تتيح المجال لتخطي الثغرات الاجرائية وتطويق الاختلالات التي ظهرت. وستسمح بمزيد من الاتصالات واستكمال الحوار مع الاطياف الراغبة بالمشاركة والتي انسحبت بسبب اليات وممارسات خاطئة وضعف في الاجراءات ، في حين لن تغير هذه الفسحة الزمنية من موقف القوى الرافضة المستندة الى قناعات فكرية مسبقة.

اما تلك السلبيات التي ظهرت وستظهر عند التطبيق ، فهي متوقعة. فنحن ازاء تجربة جديدة في الحياة السياسية نأمل لها ان تتكرر ، فاذا كان الاغريق قد مارسوا الديمقراطية منذ خمسمائة عام قبل الميلاد فإن العراقيين دخلوا الالفية الثالثة ولم يعرفوها. ولذا سيكون تحليقاً عالياً في عالم الوهم والافتراض بأن البدايات تكون متكاملة لشعب لم يستنشق الحرية ، فيما اكتنزت ذاكرته كماً كبيراً من الاستبداد. ولذا فهو بحاجة الى ان يمرن رئتيه على هوائها. ولذا أيضا يمكن اعتبار التجربة تمريناً انتخابياً محدوداً واختباراً للقوى السياسية على التعايش والاحتكام الى قواعد اللعبة.

وأخيرا ، دعونا نبدأ بنصف ديمقراطية ، وبمن رغب ، على أمل ان يلتحق الاخرون باللعبة في المحطات القادمة بافتراض ان لا يعملوا على تحطيم قضبان القاطرة.

* كاتب عراقي وأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد