فتح والسلطة الفلسطينية.. من يصلح من؟

TT

لم تكن الازمة الفلسطينية الأخيرة مجرد حالة عابرة، وانما نتيجة تراكم سنوات طويلة من الاخطاء والاخفاقات والصراع الداخلي على النفوذ. وهي ازمة شملت السلطة الفلسطينية وحركة فتح ايضا. وتشير الى ان مسيرة السلطة الفلسطينية طوال العشر سنوات الماضية، كانت تنوء بالأخطاء والممارسات المرفوضة، اخطرها قضايا الفساد والاستهتار والمس بالمال العام. ومع ذلك، تعاملت السلطة مع الامور بسطحية كبيرة. اضافة الى ان الرئيس عرفات اعتاد، منذ الامساك بزمام السلطة ـ وكذا في عهد المنظمة ـ تعيين شخصيات محسوبة عليه، بغض النظر عن كفاءتها. وقد ولد ذلك نقمة كبيرة في الشارع الفلسطيني، وداخل حركة فتح نفسها. هذه الشخصيات اعطت صورة سوداء وشوهت صورة السلطة نفسها، بل وانتقل الامر الى حركة فتح، التي باتت تعتقد انها تدفع ثمن اخطاء السلطة، وأنها خسرت العديد من الانتخابات النقايبة والطلابية بسبب «الدمج الخاطئ بين السلطة وفتح».

طوال السنوات الماضية ظهرت بعض بوادر تمرد في حركة فتح على الوضع القائم، وانتشرت بيانات تحمل اسم «شرفاء فتح» هاجمت ـ وبشكل غير مسبوق، عددا من قيادات السلطة وفتح، واتهمتها بالفساد، وتوعدت بالقصاص. ومارس تيار من حركة فتح ضغوطا داخل المجلس التشريعي لسحب الثقة من الحكومة التي شكلها عرفات، وهذه وضعت علامة فارقة حيث ظهر تياران: تيار يعارض سياسة عرفات ويعتقد انها باتت غير فعالة وتسهم في تأزيم الوضع الفلسطيني في كافة جوانبه. ووقف على رأس هذا التيار محمد دحلان ومحمود عباس ونبيل عمرو، وقيادات بارزة في فتح مثل سمير المشهراوي وحسين الشيخ. وتيار ظل على ولائه للرئيس عرفات، ودافع عنه، ووقف الى جانبه. وكان من ابرز هؤلاء هاني الحسن وصخر حبش وجبريل الرجوب، وفي غزة، احمد حلس امين سر الحركة في القطاع. وثمة تيار ثالث اشبه بالصامت الذي يحاول ان يمسك بالعصا من منتصفها، ويبتعد عن أي احتكاكات مع أي من التيارين الآخرين. بدأت قوة عرفات تتراجع لصالح التيار الاخر، بسبب تراجع اداء السلطة وضعفها وعدم قدرتها على اداء مهامها في الجوانب الاقتصادية والسياسية والامنية. وبدا ان فتح تجرأت اكثر على انتقاد عرفات (بعد ان كان من الخطوط الحمر التي يحظر الاقتراب منها)، خاصة بعد ان شعرت بأنها بدأت تخسر تأييد الشارع لصالح حماس. وخلال الأزمة الأخيرة بدت فتح بمظهرين متناقضين: مظهر التيارات المتصارعة من جهة، ومظهر من يقاتل لإصلاح الفساد وتقويم اعوجاج السلطة. وبان ذلك جليا من خلال «المواجهات الاعلامية» على شاشات الفضائيات، ومن خلال البيانات المتعارضة. فهناك فتح، التي تدعم عرفات بقوة وتريد الحفاظ على «الحرس القديم»، والانتفاع بمزايا السلطة. وهناك شريحة اكبر تشعر بالخطر الذي تتعرض له فتح ومشروعها السياسي. الصراع بين التيارين برز منذ فترة طويلة، لكنه كان يختفي تحت عباءة «الختيار»، الذي كان يعتبر قبلة كلا التيارين، وكان يستطيع ان يشد الخيوط كلها عنده. لكن مع اندلاع الانتفاضة، تعرض عرفات للعزلة في المقاطعة، وتضييق الخناق عليه، فضلا عن ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع ادائها، بدأت الكفة تميل لصالح المعارضين لعرفات، والذين اخذوا في التنامي وزيادة قوتهم وتأثيرهم. غير ان عرفات ظل ممسكا بمقدرات السلطة المالية والامنية والقرار السياسي، وهو امر مكنه من ابقاء ورقة رابحة في يده، لكنها لم تستمر طويلا، اذ توالت الضغوط على عرفات داخليا (من فتح) وخارجيا (من اسرائيل والولايات المتحدة واوروبا) لرفع قبضة يده عن الاجهزة الامنية والموارد المالية.

لم يكن علاج الازمة القائمة، من قبل السلطة، مطروحا بمعناه الصحيح، وإنما كان مجرد تعبير عن حالة احتقان او غضب، اذ لم يكن هناك برنامج اصلاحي شامل يتناول جميع مناحي الحياة، وانما اقتصر على تغيير بعض الشخصيات المتنفذة في السلطة.

ودفع هذا بفتح إلى حالة من القصور، وربما عدم المقدرة على التمييز بين التنظيم وبين السلطة. إن الكادر التنظيمي عادة، هو ذاته عماد الهيكل البيروقراطي للكيانية الناشئة، وهذا الكادر التنظيمي ذاب في البناء الهرمي للسلطة، التي اصبحت نقطة الجذب الكلية والمطلقة في عمله ونشاطه. ولم تر فتح في ذلك عيبا ـ بداية ـ إذ رأت في السلطة مشروعها الحركي في ظل الطلاق الذي اعلنته الحركات الوطنية والإسلامية مع فتح ومع السلطة عقب توقيع اوسلو. بيد ان المطب الذي وقعت فيه فتح، جاء مع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000. فقد ادى تواصلها، ومن ثم جنوحها نحو العمل المسلح، وبعد ذلك نحو الاعمال الاستشهادية، الى ظهور عدم قناعة لدى القيادة الميدانية للتنظيم بحرمة ممارسة المقاومة. وبات من نافلة القول، إن المقاومة جزء من تعزيز الموقف التفاوضي لفتح. غير ان هذا لم يلقَ ترحيباً علنياً من الحركة، وبالتالي شهدنا هذا الترهل في مواقف الحركة والتفسخ في صفوفها. وعليه ظهرت المجموعات والأجنحة العسكرية.

ولما كانت فتح ذاتها فشلت في فصل نفسها عن السلطة، لدرجة باتت معها الاثنتان وجهين لعملة واحدة، في نظر الكثير من المحللين، وهكذا عصفت مطالبة السلطة بالإصلاح بفتح ايضا، إذ يصعب اصلاح السلطة من دون اصلاح فتح نفسها. وبات اصلاح فتح شرطا لإصلاح النظام السياسي، بوصف فتح عماد هذا النظام. ويتذكر الفلسطينيون الخطوة الجريئة التي اقدم عليها عرفات عام1997، حين امر بنشر تقرير لهيئة الرقابة الفلسطينية عن تفشي الفساد في خمس وزارت تابعة للسلطة. وبعد عام من تلك الخطوة قرر عرفات اجراء تغيير وزاري، وبدلا من خروج الوزراء الخمسة المعنيين من الحكومة، فقد قرر عرفات ضم اعضاء لجنة التحقيق التي كشفت الفساد للحكومة. وفي سابقة لا مثيل لها، قام عرفات بضم ثلث اعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني الى الحكومة، وبالتالي فقد المجلس اي مصداقية رقابية. في ظل هذه الاجواء ذهب العديد من التعليقات والتحليلات الى القول بأن محمد دحلان «يقف وراء الاحداث الاخيرة»، رغم عدم توفر دلائل قاطعة على ذلك. ربما لأن اصول اللعبة يفترض عدم ظهور دحلان على الساحة بشكل مباشر، اضافة الى اعضاء اللجنة المركزية لفتح التي تعتبر خصما لدودا له. دحلان يجد ان ساحته الاساسية هي تنظيم فتح، فمن خلاله، يستطيع ان يغير الكثير مما يحلم به. هنا من المهم ان نشير الى ظاهرة حقيقية تتمثل في قوة عرفات في السيطرة على ما يحدث داخل فتح وهو في المقاطعة، وثقة اعضاء فتح بأنه قادر على مواصلة حكمهم حتى وهو في سجنه، وحقيقة ان هناك معارضة داخل فتح رغم ذلك.

* رئيس تحرير جريدة «الرسالة» في غزة