العودة الأميركية إلى دروب «الشام»

TT

بخلاف ما يحدث في لبنان هذه الأيام ، حيث الضجيج يتصاعد يومياً في وسائل الإعلام بشأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني .. لا شيء في دمشق سوى الصمت إزاء هذا الحدث الذي يتابعه السوريون عبر وسائل الإعلام اللبنانية التي تقرأ وتسمع وتشاهد جيداً في سورية.

وبالتالي فالحديث عن الدور السوري «المميز» في هذا الاستحقاق لا أثر له في صحف دمشق ولا في وسائل إعلامها المرئية والمسموعة «هل هي مرئية ومسموعة فعلاً..؟!» بل لا أثر له في مداولات المشتغلين بالشأن السياسي العام من وزراء ونواب ومديرين ومن في حكمهم.

ولا يصدق اللبنانيون ـ لنقل بعضهم ـ إن السواد الأعظم من السوريين لا يعرفون وجهة القرار السوري بشأن هذا الاستحقاق، والذي يخضع كما يبدو لاعتبارات بالغة الحساسية، ولا يعلم بمكوناته وشكله المنتظر أحد سوى المؤسسة الرئاسية السورية التي تتفحص كل التفاصيل المتعلقة به . حيث أن دمشق التي تعاملت مع «المسألة اللبنانية» بروح جديدة منذ تسلم الرئيس السوري بشار الأسد مهامه الدستورية قبل أربع سنوات لا تريد ـ وفق المعطيات المتوفرة ـ الشروع في الإيحاء لحلفائها اللبنانيين من فعاليات سياسية ونواب ووزراء وأحزاب للدلالة على موقفها من مسائل التمديد والتجديد والانتخاب ، لأن مثل هذا الأمر قد يتسبب بضرر كبير إذا جاء في غير ميعاده .

لقد أظهرت سياسة الرئيس بشار الأسد انفتاحاً لافتاً تجاه مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات السياسية اللبنانية على خلفية الرغبة «الجريئة» التي أظهرها في خطاب القسم لتصحيح مسار العلاقات وتنقيتها من الشوائب وسجلت السنوات الأربع الماضية خطوات لافتة يذكر منها:

إعادة انتشار القوات العسكرية السورية بتوافق مع القيادتين السياسية والعسكرية اللبنانيتين ، والانسحاب من جحيم التفاصيل الداخلية وتخفيف قوافل «المتسكعين السياسيين» على طريق دمشق بيروت .

في موازاة ذلك تعامل السوريون برحابة صدر ولأول مرة مع الانتقادات التي حفلت بها الصحافة اللبنانية لممارسات بعض السوريين، وكفت يد عسكريين ومسؤولين نافذين أخطأوا في السلوك والعمل، وفتحت الباب على مصراعيه لسماع مرجعيات سياسية وروحية لها «رأي» في الدور السوري في لبنان ، ومع أن هذا المناخ ولّد شططاً لدى بعض المشتغلين في الإعلام اللبناني طاول هيبة الرئاسة السورية ، إلا أن التعامل العاقل مع هكذا ظاهرة أفرغها من مضمونها وجعلها مجرد أصوات بلا فضاء ، وهذا أمر يعكس حقيقة الفهم السوري لهذه التداعيات السالفة الذكر المتكئة بالأساس على جهل بالمسار القلق للعلاقات السورية الأميركية، والاهتزاز الكبير الذي أصاب هذه العلاقات منذ بدء الغزو الاميريكي للعراق ثم تطور بعيد سقوط بغداد وتعاظم مع صدور القانون الأميركي المسمى (محاسبة سورية وسيادة لبنان).

واليوم يبدو الاستحقاق الرئاسي اللبناني بمثابة امتحان جديد لهذه العلاقات التي تشهد بداية انفراج جزئي، لم تظهر معطياته إلى العلن بعد ، وفقا لمصدر دبلوماسي عربي تهتم بلاده بتصحيح العلاقات السورية الأميركية.

وبمعنى أشمل يبدو الاستحقاق وكأنه يحمل إجابات لأسئلة معلقة تتجاوز: التمديد أو التجديد أو الانتخاب ، إلى شكل العلاقات السورية الأميركية ومساحتي الخلاف والتوافق بين الجانبين وظلال المأزق الأميركي في العراق ومخاطر استمرار موت عملية السلام على المسارات المتبقية .

إذن .. لا إيحاء من دمشق حتى الآن إلى الحلفاء الذين أربكهم «الغموض البناء» فانغمسوا بالتحليل والتركيب واستخراج الصيغة التي تحمل الوجهين!

ولكن.. إذا كان هذا الغموض البناء يحجب الرؤية عن مستقبل مقعد الرئاسة الأولى في لبنان ، فهل يحجب الرؤية عن حركة الوسط المحيط والتفاعلات المحتلمة في الأشهر القادمة ؟

يتوقف الباحثون عن إجابة جدية لهذا السؤال عند الموقف المتبصر لبطريرك الطائفة المارونية مار نصر الله بطرس صفير، الذي حافظ بموجبه على رأيه النقدي من «النفوذ السوري في لبنان» من غير الانخراط في لعبة الرهان على الخلاف السوري الاميركي، وبالتالي الرهان على «ضعف سورية في لبنان» لعلمه ـ ربما ـ بأن الخلاف لن يصل إلى درجة القطيعة النهائية التي تفترض «اقتلاع» سورية من لبنان ! لأن تاريخ العلاقات بين دمشق وواشنطن شهد حالات سوء فهم مشابهة لحظة تقاطع المصالح ، لكن لحظة توافق المصالح شهدت انعطافات حادة بالاتجاه الآخر.

ويتذكر «راغبون في الفهم» واقعة ترشيح النائب ميخائيل الضاهر لمنصب الرئاسة خريف العام 1988 بعد لقاء «مفصلي» بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والمبعوث الاميركي ـ آنذاك ـ ريتشار مورفي .

لقد كانت الأشهر التي سبقت اللقاء «عاصفة» سمتها الرئيسية سوء الفهم بين واشنطن ودمشق إلى درجة الصدام العسكري ( شاركت قطع الأسطول الأميركي السادس الموجودة في البحر المتوسط بقصف مواقع عسكرية سورية في منطقتي عالية وبحمدون ) لكن لقاء مورفي ـ الأسد شكل انعطافاَ حاداً نحو حوار سوري أميركي أفضى إلى هدوء استمر حتى سقوط بغداد .

طبعاً لم يصل الضاهر إلى كرسي الرئاسة ، بسبب سياسة المنع التي مارسها رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة ميشيل عون ضد النواب لضرب النصاب القانوني لجلسة انتخاب الرئيس، الأمر الذي أعطى الحوار السوري الأميركي دفعة أساسها ، هذه المرة ، جهل عون ومؤيديه بنظام المصالح الذي لا تقف في طريقه رغبات فصيل سياسي صغير يتقن فن تهييج الجماهير !

لقد بنى السوريون مع الولايات المتحدة بعد ذلك قاعدة تفاهم فتحت الباب على مصراعيه لإقصاء ميشيل عون، وتوحيد المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال لحود ، كما فتحت الباب للوصول إلى مؤتمر مدريد، بعد المشاركة الرمزية للقوات السورية في التحالف الذي أخرج العراق من الكويت من غير أن يطلق السوريون رصاصة واحدة باتجاه الجيش العراقي.

وبالعودة إلى الاستحقاق الرئاسي اللبناني الذي يأخذ هذه المرة ـ كما أسلفنا ـ أبعاداً أكبر من حجمه يتبادل السوريون والأميركيون لعبة التورية والانتظار ولكل منهما أسبابه : فالولايات المتحدة ذهبت بعيداً في لعبة تهميش دمشق، وليس من السهل التراجع هكذا وبالمجان للاعتراف بدورها الإقليمي في لبنان ، وفي وقت لاحق في العراق .

وسورية ذهبت بعيداً في العصيان والرفض لسياسة الهيمنة الأميركية في المنطقة ، مع الإقرار بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في هذا الحوض البالغ الأهمية من غير الإصابة بالهلع .

ومع الانتباه المبكر للتحولات الدراماتيكية التي يشهدها العراق في جنوبه ووسطه وبعض شماله ، لجهة تصاعد عمليات المقاومة وازدياد اعداد القتلى من الجنود الأميركيين ، يعتقد المشتغلون في الشأن السياسي السوري أن وقت العودة الأميركية السلمية إلى دروب دمشق قد حانت، وأن القوات العسكرية الأميركية وإن انتشرت على الحدود السورية العراقية لا تغير من حقائق الجغرافيا والتاريخ ... والمصالح المتبادلة .

لقد استطلع رئيس الوزراء العراقي إياد علاوي هذه الدروب نيابة عن الولايات المتحدة ، وفهم السوريون أبعاد هذه الخطوة ، فأحاطوه بحفاوة لافتة . ويبدو أن ساعة اللقاء السوري الأميركي قد حانت وليس بعيداً أن يكون استحقاق «بعبدا» مناسبة للانعطاف الأميركي الجديد ..

مرة أخرى يكسب السوريون .

* كاتب سوري