كتابات الصيف ـ في جمع الأسفار

TT

يسمي جورج اورويل المسافرين مثلي «ومثله في ذلك الوقت» ركاب الدرجة الثالثة! أي الناس العاديين، الذين يملكون متعة السفر لكنهم لا يملكون تمتع الدرجة الاولى. ويقدرون على التجوال في ديار الله ومرافئ الارض والبحر، فكلما رأوا في الافق أفقا، ازدادت معرفتهم افقا آخر. وانا من اولئك الذين جمَّعوا السفر في الحياة. لم اجمع السجاد، ولا التحف، ولا الملاعق الفضية، لكنني انشأت مجموعة تحفية لا قيمة لها الا في نفسي: المشاهد والمدن والحضارات والناس ورفوف المكتبات. وعندما ذهبت الى «بون» قبل سنوات دخلت الى احدى المكتبات القديمة كمن يحضر مسرحية بالصينية.

وضحكت من نفسي وانا اتطلع في العناوين. وادركت وانا اقلِّب احد الكتب العتيقة انه نسخة من «الف ليلة وليلة»، فسألت صاحب المكتبة بسذاجة، ما هو هذا الكتاب على وجه الضبط؟ فقال ضاحكا: انه كتاب المرأة التي ضحكت على رجل طوال الف ليلة وليلة! وسألته ضاحكا، وماذا حدث لها في الليلة الثانية بعد الالف؟

فأجاب ضاحكا ايضا: لقد تحولت الى كتاب يضحك من الرجال في كل العصور.

كل سنة، في مثل هذا الوقت، احاول ان اعد مجموعة من الحكايات والمشاهدات المسلية لأهل الصيف. واقول في نفسي ان اكثر ما يستحقه الانسان في عصور الالم واليأس، هو اجازة للنفس. ولو ان الاجازة للقلم نفسه غير مألوفة. ثم اتساءل، ماذا يمكن «ركاب الدرجة الثالثة» ان يقدموا من سلوى؟ ولا تسعفني في البحث عاداتي السندبادية التي بدأت في ابحارها وانا في العشرين بعد. ولم تكن معي سوى حقيبة جلدية رخيصة ومحفظة صغيرة وضامرة وخائفة من أي رقم يقدم اليها: في المطار. في القطار. في المطعم. في المترو: لقد كانت مهددة بأن تفرغ تماما مثل مخازن القمح في الانهيار. ومع ذلك كانت المعرفة اعظم بكثير من المشقة. وكان الحلم جزءا من الحقيقة. وكنت اسافر وراء قلمي الباحث عن شيء ابعد من متناوله وعن مألوف الحياة في البلد.

وكان كل شيء جديدا ومبهرا ويمنحك متعة الاكتشاف. الارصفة العريضة والجادات الواسعة والمصابيح المنظومة مثل مجرات ارضية، وأنس الغربة ودهشتها التي سوف تتحول سريعا الى وحدة ووحشة واشتياق الى الاشياء الصغيرة في الوطن! وما هو الوطن؟ لعل اجمل تعريف له هو الذي وضعه الامام محمد عبده: انه الحدود المطمئنة. ولا يهم في هذه الحال تسكين الطاء او توضيحها بالفتحة، فالمعنى واحد.

يحدث احيانا، انني انتقل من عربة الدرجة الثانية او الثالثة، الى المقصورة الاولى، بدعوة من صديق. لكنني اظل ابحث في السفر عن مادة للكتابة. وهي وافرة في مدن هذا الكوكب الجميل وجباله وسهوله ومحيطاته. غير انني احب المتوسط دون البحار. واحب زرقته وذكرياته ومشهد السفن تحمل الحالمين بالآلاف من ميناء بيروت وتعود بالعشرات. وقد اخافني لون الاطلسي وانا ابحر فيه خمسة ايام وخمس ليال. وفهمت لماذا سماه الجغرافيون العرب «بحر الظلمات». ولم تدركه مخيلة شهرزاد، والا آنست بحكاياته شهريار. وفضل السندباد الرحلة القريبة الى بلاد الهند والسند. غابات سرنديب (سري لانكا اليوم) فوصلها، بعكس كريستوف كولومبس الذي يمم الى الهند وارسى في «العالم الجديد».